Author

الفضاء السيبراني .. وتفعيل الثقافة والتعليم

|

إذا أردنا أن نتعرف على "ثقافة" إنسان، فإن "سلوكه" هو "المنتج" الذي تقدمه هذه الثقافة. فالثقافة تؤهل الإنسان لفهم الحياة، و"رؤية" مشهدها من مختلف جوانبه، و"التفكير" في شؤونها ومتطلباتها، وصولا إلى اختيار "التوجهات" بشأنها. ولثقافة الإنسان "ثوابت" و"متغيرات"؛ ولها أيضا "مستجدات"، خصوصا في هذا العصر، عصر الثورة الصناعية الرابعة؛ حيث يتغير مشهد الحياة مع تسارع "تطور التقنية"، ويتجدد مع التوسع في تطبيقاتها، والسعي إلى الاستفادة منها على نطاق واسع يشمل الجميع. ولا شك أن في ذلك معطيات ثقافية متجددة تضاف إلى ما لدى الإنسان من ثقافة، لتعطيه فوائد في توجيه سلوكه بما يتناسب مع متطلبات العصر، دون التفريط في الالتزام بثوابت "مكارم الأخلاق"، والعمل على "خدمة المجتمع"، والارتقاء بإمكاناته. وأمام النظر إلى معطيات ثقافة العصر، وتأثيرها في حياة الإنسان، يبرز موضوع "الفضاء السيبراني" وتطوره على مستوى العالم، وأثره الثقافي في الإنسان أينما كان. هذا الفضاء هو "الإنترنت والتقنية الرقمية وتطبيقاتها" التي تربط العالم، وتفعل تواصل الناس بين أرجائه المختلفة. فإذا كان عالمنا الفعلي هو "الفضاء المادي" الذي يحتوينا جميعا، فإن الفضاء السيبراني بما لديه من ربط شبكي، وتقنية رقمية وتطبيقات متقدمة، يقوم - عبر خدماته العديدة وانتشار استخدامها والاستفادة منها - "بحوكمة" الفضاء المادي و"الإسهام في تطوره". وهذا هو معنى كلمة "سيبرنتيك" Cybernetic المأخوذة من اللغة اللاتينية، كما أوضحنا في مقال سابق؛ أي أن "الفضاء السيبراني" هو ذلك الفضاء الذي يقوم بتفعيل نشاطات "الفضاء المادي" والتأثير في مستقبله.
ويتميز "الفضاء السيبراني" بانتشاره على نطاق واسع، شاملا مختلف المجالات وشتى بقاع الأرض. ويتمثل تأثيره في تمكينه "للتحول الرقمي" الذي يشهده العالم اليوم. ولعله يمكن تعريف هذا التحول على أنه "تفعيل الاستفادة من الفضاء السيبراني وتطوره المستمر بكفاءة وفاعلية وأمان".
ويتطلب هذا التحول من الجميع استيعاب "الإنترنت والإمكانات الرقمية وتطورها"، و"السعي إلى الاستفادة منها في شتى المجالات". وتشمل فوائد "التحول الرقمي" جوانب متعددة ترتبط، بشكل رئيس، بما يقدمه من "تطوير في الأداء" في تطبيقاته المنتشرة في شتى المجالات. ويشمل ذلك: "الخدمات الحكومية الإلكترونية، والتجارة الإلكترونية، والتعليم، ونشر المعرفة، وتمكين التواصل، والأتمتة، والذكاء الاصطناعي، وغير ذلك". ويعطي هذا التطوير فوائد اقتصادية واجتماعية عبر نشره "للمعرفة" على نطاق واسع، وتفعيله "للصناعة"، وتسهيله "للتجارة"، وتعزيزه "للتواصل"، وتطويره "للخدمات"، وتوفيره "للطاقة"، وتحسينه "للبيئة"، ودعمه "للأمن"، وتحقيقه "لجودة أعلى لحياة الإنسان".
وهكذا، نجد أن "الفضاء السيبراني" هو "الممكن للتحول الرقمي" وفوائده الاقتصادية والاجتماعية. ولعلنا نقول "الثقافية أيضا"، وذلك عبر إسهامه في التعليم ونشر المعرفة التي "تثري ثقافة الإنسان". وسنقدم مثالين دوليين مهمين حول ما يجري في العالم في هذا المجال. يرتبط المثال الأول بموضوع "التعليم" عبر ما يعرف "بالدورات المفتوحة على مستوى العالم: مووك MOOC". ويركز المثال الثاني على مؤسسة "التقنية والترفيه والتصميم: تيد TED" التي تسعى إلى طرح أفكار على مستوى العالم أيضا، تحت شعار "أفكار تستحق النشر". تتوافر "الدورات المفتوحة مووك" في شتى الموضوعات وعلى مختلف المستويات، في مواقع خاصة عديدة. ولعل أبرز هذه المواقع موقع "أكاديمية خان" Khan Academy، الذي يقدم "دورات مجانية" في شتى الموضوعات، ضمن مستويات تراوح بين مراحل التعليم الابتدائي وصولا إلى التعليم الجامعي. وهناك مواقع أخرى أطلقتها جامعات مرموقة مثل موقع "جامعة هارفارد للمقررات المفتوحة" Harvard Open Courses، الذي يطرح حاليا أكثر من "900 مقرر" في مجالات عديدة، ومثل موقع "جامعة ييل للمقررات المفتوحة" Yale Open Courses. ثم هناك مواقع لموضوعات ومقررات تشارك فيها جامعات مختلفة، مثل موقع "كورسيرا" Coursera وموقع "إد أكس" EdX. وهناك أيضا مواقع لجامعات تمنح درجات علمية، كما هو الحال في موقع "جامعة الشعب" UoPeople. وهناك مواقع أخرى كثيرة تماثل هذه المواقع تنشر التعليم حول العالم عبر الإنترنت.
ونأتي إلى "مؤسسة تيد" TED، التي تعمل على نشر أفكار تراها تستحق هذا النشر، وترى في ذلك إسهاما في بناء "فهم أعمق للعالم" عبر الشراكة في هذه الأفكار، كما ترى فيها أيضا "تحفيزا لأصحاب الأفكار" على نشر أفكارهم على مستوى العالم. وتشترط هذه المؤسسة على أصحاب الأفكار عرض أفكارهم بأنفسهم في فيديو مصور لا تتجاوز مدته الزمنية "18 دقيقة"؛ كي يكون العرض مركزا ومختصرا، يمكن للآخرين تلقيه دون ملل. وقد بات لهذه المؤسسة سفراء في مختلف أنحاء العالم، يشجعون أصحاب الأفكار في مناطقهم على عرض أفكارهم، ولو بلغتهم الأم، وينقلونها إلى الإنترنت لتكون متوافرة. ويحفل "يوتيوب" YouTube بمثل هذه العروض. وقد لا تستحق كثير من الأفكار المنشورة عبر "تيد" النشر، لكن كثيرا منها، وفي مجالات مختلفة، كان مفيدا للمشاهدين حول العالم. وعلى الإنسان الواعي أن يميز بين "الغث والسمين"، كما ذكرنا في مقال سابق.
بناء على ما سبق نجد أن هناك مؤسسات وجامعات في العالم المتقدم تقوم بتوفير التعليم ونشر الأفكار المتجددة، التي تراها تستحق النشر، وذلك "رقميا" في تحول من "الفضاء المادي" إلى "الفضاء السيبراني"، الذي يمكّن هذا النشر من الوصول إلى الجميع حول العالم دون عوائق. ولعله من المناسب هنا أن نأمل في وجود مؤسسات مثيلة على مستوى العالم العربي عموما، والسعودية خصوصا؛ لأنها دولة رائدة، وواحدة من دول العالم العشرين. صحيح أن كثيرا من المؤسسات الإعلامية العربية تقوم بمثل ذلك، لكننا نحتاج إلى هذا الأمر من المؤسسات المعرفية والثقافية. هناك كثير من المحاضرات الثقافية العربية التي تلقى في "الفضاء المادي" المحدود الانتشار، لكنها لا تصل إلى "الفضاء السيبراني" الواسع الانتشار. ولا شك أننا، خصوصا أجيالنا الصاعدة، نحتاج إلى المعرفة المتجددة وثقافة العصر من أجل مواكبته والتأثير فيه، ليس فيما نتلقاه من العالم فقط، بل فيما نقدمه نحن أيضا. ولعل الطريق إلى ذلك هو التحول الرقمي للمعرفة والثقافة صوتا وصورة ونصوصا، والانتقال الفاعل بها من الفضاء المادي إلى الفضاء السيبراني.

إنشرها