FINANCIAL TIMES

قيمة اقتصادية مذهلة لـ «عامل الثقة»

قيمة اقتصادية مذهلة لـ «عامل الثقة»

بعد أن حذرت في الأسبوع الماضي من أن تآكل الثقة بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ـ كما تبين من قضية لودميلا كوسوفسكا ـ يشكل خطرا اقتصاديا، فضلا عن كونه خطرا سياسيا، أبدى القراء اهتماما بما نعرفه حيال القيمة الاقتصادية للثقة. ومع أن جدالي كان حول الثقة بين الدول، إلا أنه ينطبق بالقوة نفسها على الثقة بين الأفراد داخل المجتمعات.
ما كيفية ومدى تأثير الثقة في النتائج الاقتصادية؟ هناك استعراض عام ممتاز مقدم من لويجي جيزو، وباولا سابينزا، ولويجي زينجاليس الذين راجعوا المناهج النظرية وأساليب القياس التي يستخدمها الاقتصاديون للإجابة عن هذا السؤال. وهم يستخدمون مصطلح "رأس المال المدني" (الذي يعتبرونه مصطلحا محددا مقارنة بمفهوم "رأس المال الاجتماعي" الأعم) ويعرفونه على النحو التالي: "تلك المعتقدات والقيم الثابتة والمشتركة التي تساعد مجموعة ما على التغلب على مشكلة الراكب المجاني (على حساب الغير) في السعي وراء ممارسة الأنشطة ذات القيمة الاجتماعية".
هذا تعريف رائع لأنه يوضح ما نتحدث عنه، ويحتوي في حد ذاته على توضيح كيف تعمل الثقة على خلق القيمة الاقتصادية. من الناحية الاقتصادية، الثقة توجد أنماطا سلوكية تدعم "التوازنات الجيدة" - فهي تعمل إلى الحد الذي يرجح فيه للناس أن يصبحوا (راغبين) في العمل للصالح العام بدلا عن العمل ضده، في الوقت الذي يتوقعون فيه من الآخرين أن يكونا (راغبين) في فعل الشيء نفسه. وهذا يجعل الثقة بديلا عن وسائل أخرى تعتبر أكثر تكلفة من أجل تأمين السلوك التعاوني، مثل التشريع والتنظيم، والإنفاذ القضائي. (في الواقع، تستشهد النظرة العامة بإحدى الدراسات التي توصلت إلى "أن هناك ترابطا قويا للغاية بين عدم الثقة ومستوى التنظيم"). بعبارة أخرى، الثقة تولد أرباحا اقتصادية غير متوقعة من خلال تقليص تكلفة التحكم في الأشكال الأكثر تكلفة من سلوك البشر.
ما حجم هذه الأرباح غير المتوقعة؟ من الصعب قياسها بدقة. الثقة لا تشكل حجما واضحا كي يتم قياسها، أو كي تجرى مقارنتها بين الأزمنة المختلفة وكذلك بين الأماكن. مع ذلك، تطرح دراسات استقصائية دولية أسئلة حول الثقة بالطريقة ذاتها في مختلف البلدان، على الرغم من أن مقاييس الثقة هذه لا تعود إلى زمن بعيد. لذلك من الصعب فصل أثر الثقة عن الخصائص الأخرى التي تختلف بين الاقتصادات الوطنية.
لكن في الوقت الذي يمكن فيه التغلب على هذه العقبات، يبقى الجواب هو أن الثقة تعد عاملا محددا كبيرا للأداء الاقتصادي للبلدان. نشر يان ألجان وبيير كاهوك تقديرات مذهلة متعلقة بالقيمة الاقتصادية للثقة، استندا فيها على منهجية تتسم بالذكاء.
أشارا إلى أن مستويات الثقة المبلغ عنها بين الأمريكيين ترتبط بشكل منهجي بمستويات الثقة في البلاد التي هاجر منها أجدادهم. وهما يستغلان ذلك بغية وضع تقديرات لمستويات الثقة في عدد من البلدان من خلال العودة إلى الماضي، على أساس التغيرات في السكان المهاجرين في أمريكا حسب بلد المنشأ وعدد الأجيال التي ولدت بعد وصول أجدادهم الأول. وهذا يتيح لهما تقدير مستويات الثقة في عشرات البلدان على مدى فترة تعود إلى قرن من الزمان تقريبا.
باستخدام هذه البيانات يمكنهما الإجابة عن سؤالنا. مع أخذ السويد اليوم – التي تمثل مجتمعا عالي الثقة - مقياسا، يتساءل الباحثان عن مستوى فقر وغنى البلدان إذا حظيت بمستويات الثقة السويدية المعاصرة. الجواب، بشكل عام، كبيرا. "كان نصيب الفرد من الدخل قد زاد 69 في المائة في روسيا، 59 في المائة في المكسيك، 30 في المائة في يوغوسلافيا، و29 في المائة في جمهورية التشيك، و9 في المائة في المجر، إذ كانت هذه البلدان قد ورثت مستوى الثقة نفسه مثل السويد. التأثير، وإن قلت أهميته، يعتبر كبيرا في البلدان الأكثر تقدما. كان نصيب الفرد من الدخل سيرتفع 17 في المائة في إيطاليا، 11 في المائة في فرنسا، 7 في المائة في ألمانيا، 6 في المائة في المملكة المتحدة، إذا كانت هذه البلدان تتمتع بمستوى الثقة نفسه الموروث مثل السويد".
هذه أرقام ضخمة. وبالطبع، لها أهمية سياسية أيضا. يمكن أن تمتد الثقة المنخفضة إلى المؤسسات السياسية والديمقراطية نفسها. وهنا مثال مأساوي وهزلي في الوقت ذاته وهو ظهور مجموعات صغيرة في ألمانيا (إحداها بقيادة "الملك بيتر الأول") الذي يعتقد أنه يستطيع إنشاء صغيرة دول ذات سيادة بعيدا عن متناول القانون الألماني. وبشكل أعم، هناك دراسة بحثية حديثة تربط انخفاض ثقة الناس بالمؤسسات السياسية بارتفاع الدعم لمصلحة الأحزاب الشعبوية المناهضة لأوروبا. وترى الدراسة أيضا أن ضعف الأداء الاقتصادي يمكن (لكن ليس دائما) أن يؤدي إلى مثل هذا الانخفاض في مستوى الثقة. وبما أن الثقة المنخفضة في حد ذاتها سيئة للاقتصاد، فإن هذا لديه كافة المقومات لإحداث تدهور سريع.
معظم النماذج الاقتصادية المستخدمة لأغراض السياسة لا تتضمن أي دور متعلق بالثقة. يجب على صانعي السياسات استخدامها بحذر عند اقتراح السياسات التي ربما تشكل ضغطا على الثقة داخل، أو بين الاقتصادات الوطنية. وينبغي للسياسيين أن يكونوا واثقين، حيث يعطون أولوية لتأمين ما يؤدي إلى الحفاظ على الثقة التي لا تجمعنا معا فحسب، بل تجعلنا ننعم بالازدهار أيضا.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES