ثقافة وفنون

ألان فينكلكروت.. يسكت الجميع ليبكي وحده «فرنسا الضائعة»

ألان فينكلكروت.. يسكت الجميع ليبكي وحده «فرنسا الضائعة»

ألان فينكلكروت.. يسكت الجميع ليبكي وحده «فرنسا الضائعة»

"يسكت الجميع ليبكي وحده هوية فرنسا الضائعة"، بهذه العبارة المفاجئة أجابني فرنسي حين طلبت رأيه في الفيلسوف الفرنسي ألان فينكلكروت الذي أضحى اسمه يملأ المشهد الثقافي الفرنسي، بعدما أتقن لعبة الزج بالنفس؛ ومن دون مواربة، في معتركات الفكر والسياسة راكبا التيار المعاكس، لتحول في نظر كثير من مخالفين إلى مجرد «دجال أفاق».
ربما نكون أمام إحدى سخريات التاريخ، إذ كيف ترتد الساحة الفكرية الفرنسية بعد كل الفتوحات الكبرى التي حققتها بأسماء ثقيلة في معادلة الفكر والسياسية العالمية أمثال فولتير وروسو ودوتوكفيل وكامو ودولوز وبوردو وفوكو... لتقبل بـ"أشباه فلاسفة" لا يعرفون من التفكير إلا معاداة الآخر المخالف، والتهجم على الإسلام، باسم الدفاع عن العلمانية المهدَّدَة، والذود عن "هوية فرنسية نقية" من هجوم الغير. من بين هؤلاء نذكر برنار هنري ليفي ومارك هالتر وأندريه جلوكسمان... لكن ألان فينكلكروت يبقى زعيمهم بلا منازع.
يوصف الرجل بأنه في الوقت نفسه معاد للحداثة وبأنه محافظ، ولا يتردد في التعبير عن رفضه للزمن الحاضر، لأنه من عشاق الماضي بـ"أمجاده" وعظمته، ويرى في الحاضر المعيش تفسخا، ويكره الأغيار والأجانب. وعن ذلك يقول: «لا أحب ما صارت عليه فرنسا، اليوم. إن عشقي لفرنسا هو عشق لشيء بائد، أحس بهشاشته. إن رفض عدد كبير من المهاجرين الذوبان في المجتمع الفرنسي، وأيضا الانتقاد الأمريكي لعلمانيتنا قاداني إلى أن أعي ما تمثله فرنسا بالنسبة لي».
من يستمع إلى فينكلكروت يتحدث عن "تهديد التعدد الثقافي" بشراسة ويقين قطعي؛ وكأن الرجل يشرح قواعد رياضية أو قوانين في الطبيعة، متناسيا ما عرفه السياق الثقافي الفرنسي من مدراس وتوجهات (الماركسية النقدية والوجودية والتفكيكية والبنيوية...). حتما سيتذكر خطب الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي عن الهوية الوطنية الفرنسية، التي تتقاطع في أوجه عدة مع أطروحة هذا الفيلسوف. ما جعل هذا الأخير من أنصار الأول، والداعين إلى التصويت عليه في الانتخابات الرئاسية.
ينافح عضو الأكاديمية الفرنسية في كتاب "الهوية الحزينة" (2013) عن هوية وطنية متخلية لفرنسا؛ حتى قُدِّم في الإعلام الفرنسي على أنه أحد صقور الهوية الوطنية، بعدما خاض معركة الهوية الفرنسية، ضد مثقفين كبار في المشهد الفكري الفرنسي، ممن أقدموا على تفكيك الهوية الوطنية، معتبرا أنهم يعانون من الإيكوفوبيا (Oikophobie)؛ أو ما يعرف بالحقد على البيت الأصلي، فلا محل في نظره داخل فرنسا لشيء آخر غير "العلمانية الجمهورية" بمبادئها وقواعدها وأحكامها المحدد.
يرفض صاحب "هزيمة الفكر" (1987) أي نزوع نحو الاختلاط والتلاقح والتعددية والتنوع والتهجين، أيا كان نوعه وطبيعة؛ دينيا أو لغويا أو عرقيا. كما أن الاستعمار في نظره ليس سيئا في كافة جوانبه، فقد ساهم في نشر "الحضارة بين الشعوب المتوحشة".
أكثر من ذلك لا يتوانى عن التأكيد على أن معاداة الإسلام؛ أي "الإسلاموفوبيا" مجرد وهم فقط. فهو يرى أنه «في فرنسا يُتهم بالإسلاموفوبيا كل من يريد إخضاع المسلمين لقوانين الجمهورية، بدلا من أن تخضع الجمهورية لإكراهات الإسلام».
ليس هذا فحسب، وإنما في عز احتفال الفرنسيين بفوز المنتخب الفرنسي ببطولة كأس العالم، أصر الرجل على أن يغرد خارج السرب، ويكون نشازا على لحظة الإجماع الوطني التي تناسى فيها الكل الخلافات، ساخرا من الفريق الملون "فرنسيين بيض، عرب، سود" معلقا على أنه منتخب "يثير السخرية في أوروبا".
يُصرح فينكلكروت "أهدافي ليست سياسية، أنا أكتب لأكشف ما يتراءى لي كحقيقة"، لكن الحقيقة غير ذلك، فهو يمارس السياسة من وراء حجاب أو بالتقية. إذ لولا الغطاء السياسي الذي توافر للرجل لما وطئت قدمها محراب الأكاديمية الفرنسية العريقة.
شكل دخول الرجل إلى "مجمع الخالدين" الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى سنة 1635 في عهد الملك لويس الثالث، صدمة كبيرة في الأوساط الفكرية الفرنسية، لا بل حتى لدى العامة، ممن يرون فيمت حدث إشارة على أن فرنسا أوشك على "بلوغ الحضيض". بانفتاح أبواب الأكاديمية؛ ومنذ الدور الأول بمجموع 16 من أصل 28 صوتا، لمفكر رجعي ونيوكولونيالي دليل على أن سرطان اليمن المتطرف عمّ كل مؤسسات وهيئات البلاد.
إن الأمر كذلك، فالأكاديمية ليس مجرد مؤسسة عادية على غرار البقية، وإنما معقل التنوير والتجديد والتحديد، فهي الحريصة دوما على مسايرة روح العصر؛ لا بل واستباقه أحيانا، مثلما حدث عند فتح أبوابها لأعضاء سود من إفريقيا كالرئيس السينغالي ليوبولد سيدار سنغور، وعرب كالروائي المغربي الطاهر بنجلون، والكاتبة الجزائرية آسيا جبار، واللبناني أمين معلوف.
يبقى خير تعليق على المعارك الهوائية لزعيم الرجعيين الجدد، التي لا تنقضي، ما قاله أحد الباحثين عنه عقب صدور كتابه "الهوية الحزينة" حين اعتبر نموذجا "للمثقّف الكلاسيكي ضيق الأفق، هي فصيلة كان يجب عليها أن تنقرض منذ زمن، أو أن تكتفي بممارسة الصحافة فقط، لأنها، في استهزائها بالسوسيولوجيا، (يقصد الأبحاث الميدانية والمعطيات الإحصائية) تؤكد فقط غربتها عن الواقع الذي تعتقد أنها خير من يفهمه، بل وتبعث أحيانا على الشفقة".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون