ثقافة وفنون

تزامنا مع نرجسية «التواصل الاجتماعي» .. أفول الرواية وبزوغ السيرة الذاتية

تزامنا مع نرجسية «التواصل الاجتماعي» .. أفول الرواية وبزوغ السيرة الذاتية

تزامنا مع نرجسية «التواصل الاجتماعي» .. أفول الرواية وبزوغ السيرة الذاتية

يلاحظ المتابع للإنتاج الروائي في الآونة الأخيرة شيوع ظاهرة كتابة السيرة الذاتية، أو التخفي وراء قناع الرواية لكتابة سيرة ذاتية للمؤلف، ما ينذر ببدء عهد جديد، لكنه "موجة" يُخشى عليها من أن تنحسر أو تنطفئ، دون أن تترك تأثيرا أو قيمة في مسيرة الأدب العربي.
لكن ما الذي يدفع الراوي إلى هذا التخفي ويمنعه من أن يكون صادقاً؟ وهل رواج السيرة الذاتية كجنس أدبي في زمن الصورة ومواقع التواصل الاجتماعي ينذر بانتهاء زمن الرواية؟

خروج مبكر للرواية

أثارت تغريدة على "تويتر" للشاعرة والأكاديمية السعودية الدكتورة أشجان هندي، حول زمن انتهاء الرواية، عاصفة من التعليقات، إذ كتبت "ممّا يُثار حالياً في المجال الأدبي والثقافي: أن زمن الرواية قد انتهى، وأن المستقبل للسيرة الذاتيّة! فقط أود أن أقول للرواية، مع حبي لها: (خسارة خروجك من الدوري بدري)".بدوره يعلق المستشار النفسي والمتابع للشأن الثقافي سعد آل حجاب بأن السبب في ذلك أن "لكل جنس أدبي دورات متعاقبة فيها صولة على أو مع جنسٍ آخر، ثم يكون للآخر جولة، والعاقبة للجنس المتماهي مع المتغيرات الحياتية.. لكن الشعر خارج المنافسة؛ لأنه فوق الأجناس! فهو أشبه ما يكون بالتمر، ذلك الغذاء العالمي السائد، الذي يؤخذ فاكهة، ويؤخذ طعاماً فهو حاضر في الجوع والشبع".
يشاطره الرأي الأكاديمي في جامعة المجمعة الدكتور إسماعيل محمود، بقوله "كنا ننظر إلى الرواية بتوجس أول الأمر خوفاً على مكانة الشعر؛ وكأن الشعر حامي حمى اللغة، واليوم نقول: الرواية تراجعت وازدهر فن السيرة الذاتية، وأقول: إنني أقبل كل الأجناس الأدبية وأقبل تنوعها، ويقيني أنها جميعاً تسهم في بقاء اللغة وخلودها؛ فلا خوف من ازدهار جنس أدبي أو تواري آخر".

البحث عن الواقعية

بدورها تحدثت الكاتبة الدكتورة مريم أبو بشيت عن انتشار فن السيرة، إذ قالت صاحبة كتاب "الإبداع والأصالة في شعر طاهر الزمخشري"، "ربما للسيرة الذاتية وهجها لعدة أسباب منها الواقعية.. لكن ليس هنا السر فيها. في اعتقادي أن السيرة الذاتية تدخلك التجربة المباشرة التي تضيف إلى المتلقي الخبرات الطازجة التي تفوح منها المعايشة ورائحة اليومية المعيشة كالرغيف الطازج".
فيما يرى نقاد ومثقفون أن الأمر مرده انحسار القدرة على التخيل لدى بعض الروائيين، وحالة جفاف المخيلة هذه تدفعهم نحو التعبير عن الذات، واتخاذ حياتهم والمواقف التي مرت بهم نموذجاً للكتابة، حيث يعد ذلك أسهل من ابتكار عوالم جديدة.
وعلى النقيض مما يعتقد البعض، فقد كانت السيرة موجودة عبر تاريخ الكتابة الروائية، إلا أن روائيين اتجهوا إلى توثيق تجاربهم بشكل صريح، لميل الجمهور لقراءة هذا الجنس الأدبي، الذي يوثق الحدث وما يعتريه من آلام على حقيقته، مثل ألم الفراق والغربة والوحدة والاكتئاب والسجن وفقدان الأحبة، والمعاناة في البحث عن علاج، ويغذي فضول الجمهور حول تفاصيل حياة الكاتب.
ويرى مثقفون أن اتجاه عدد كبير من الموهوبين والمبدعين إلى فن السيرة ما هو إلا طرق أسهل الأبواب وأقصرها لدخول عالم الرواية، وبطبيعة الحال فكتابة السيرة أسهل من نظم الشعر، الذي يتطلب التقيد بالشكل الشعري وبحوره، ولا يعد شعبياً لدى دور النشر، كونه لا يحقق مبيعات وكسبا ماديا جيدا بقدر الرواية.
يأتي ذلك وسط تحذيرات من الخلط بين فن السيرة الذاتية القائم بذاته، أو شكل الرواية المستقل والمميز؛ إذ ما يميز بينهما هو أن أحداث الرواية قابلة للتفرع إلى أحداث أخرى ومشاهد مختلفة، في حين إن السيرة الذاتية تدور حول بطل الرواية، أو الراوي محور الأحداث، فلا ينقسم الحدث أو يتم تناوله بمعزل عن الراوي، لكن الشروط الأساسية في الجانب الفني تتطابق بشكل عام، من حيث المعايير الفنية أو الجمالية.

تَخَفٍّ وراء الرواية

في المقابل، يتخفى مؤلفون خلف رواياتهم، دون التصريح بأن العمل الروائي هو سيرة ذاتية لهم، بل يصنفونها "رواية" لقيود سياسية، أو دينية، أو اجتماعية، كما أن السيرة في الأدب العربي في فترة منتصف القرن العشرين كان يشوبها الخجل، إذ لا تليق بكاتب عظيم كما كان سائداً، وهو ما دفع الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ إلى التواري خلف اسم "كمال عبد الجواد" في "الثلاثية".
ورغم التشابه، أو التطابق ربما، بين أحداث الرواية والأحداث الشخصية التي مر بها الكاتب، ما يجعل الجمهور يطلق على العمل الأدبي "سيرة ذاتية"، إلا أن هناك من يرفض اعتبار الرواية سيرة ذاتية كون الكاتب لم يصرح بذلك في روايته، أو يعترف بذلك لاحقاً.وحول ذلك يقول الأديب المصري الراحل توفيق الحكيم "لا أستطيع أن أسمي أي عمل فني ترجمة ذاتية إلا إذا كان مكتوباً بهذا الفن، ولهذا الغرض بالضبط، أي أن يقول لنا المؤلف هذه هي مذكراتي أو هذه هي حياتي، ويكتبها بأسلوب السرد المباشر لحياته، أما إذا صب الحياة في قالب روائي أو فني أياً كان نوعه فإنه في الحال يصبح عملاً فنياً".

عمل مضنٍ وشاق

لا شك أن كتابة الرواية عمل مضنٍ، يحتاج إلى كثير من الصبر لإنجازه، إلا أن كتابة السيرة الذاتية أكثر مشقة، فهي تحتاج إلى رصد الأحداث وترتيبها زمنيا، وتحري الصدق في المواقف والحوارات التي مرت على الراوي بحذافيرها.
ولا يرى نقاد أن تجميل السيرة الذاتية أو تطعيمها ببعض المواقف الخيالية يقلل من أهمية العمل السردي وجودته؛ فسير ذاتية كثيرة انتهت بنهايات صادقة وحقيقية، كما لا يجدون غضاضة في ميل الراوي إلى تجاهل الأحداث المخجلة، أو التي تسيء إلى شخصه وشخوص الآخرين، مثل تناوله في إنتاج أدبي كيفية تعرفه على زوجته، وما دار بينهما من حوارات ومواقف مليئة بالحب، مع تجاهل الفتيات اللاتي التقاهن قبل ذلك، وهو أمر مشروع للراوي.
في الضفة المقابلة، هناك سيرة ذاتية، ليست حقيقة سيرة، إنما أحداث من مخيلة الكاتب التي يسردها بطريقة جمالية على أنها سيرة، بهدف إثارة الجدل، وجذب أكبر عدد من القراء نحوها، مثل ما كتبه الروائي الأرجنتيني الراحل أرنستو ساباتو من روايات، هي في حقيقتها محض خيال.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون