ثقافة وفنون

السوق الرقمية .. انقياد ومخاطر .. وفرص

السوق الرقمية .. انقياد ومخاطر .. وفرص

السوق الرقمية .. انقياد ومخاطر .. وفرص

يُؤرخ الكاتب البريطاني آلان كيربي في كتابه "الحداثة الرقمية: كيف فككت التكنولوجيات الجديدة ما بعد الحداثة وأعادت تشكيل الثقافة"، للحداثة الرقمية المبكرة في النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين؛ بعدما حلّت محل ما بعد الحداثة، مؤكدة وجودها كمنظور ثقافي جديد للقرن الحادي والعشرين.
يربط الناقد البريطاني ظهور هذه الحداثة بهيمنة ما يطلق عليه تسمية "حوسبة النص"، التي يرى أنها خلخلت النص شكلا ومضمونا، وستستمر في ذلك سواء ما تعلق بكيفيات إنتاجه؛ التدفق والعفوية والتشاركية... أو طريقة استهلاكه؛ اللحظة وسرعة الزوال والتفاعلية.
توسيع زاوية النظر تظهر أن "الحداثة الرقمية" مجرد صورة أو بالأحرى جانب فقط من عالم رقمي يحفنا من كل الجهات، يعمل بشكل تدريجي على تفكيك البينات التقليدية في الثقافة والاجتماع كما في السياسة والاقتصاد، لإقامة بينات جديدة تحل محل القديمة أو تعمل جنبا إلى جنب معها، في انتظار تجاوزها مع مرور الوقت.
إن العالم الرقمي الذي تبرز ملامحه أمام ناظرنا يوما بعد آخر، يتجاوز مجرد كونه نتاجا للعلاقات الجديدة التي تقوم بين التقنية والمجتمع، أو التفاعل الذي يحدث بين تكنولوجيا الإعلام والتواصل الجديدة ومستخدميها، نحو الزج بنا؛ أفرادا وجماعات، في صيرورة تحولات لا نملك أمامها كثيرا من الخيارات.
أصبحنا زبناء أوفياء بكل طواعية وانقياد للسوق الرقمية التي تبدو من منظور ريمي ريفيل Rémy Rieffel؛ الباحث الفرنسي المتخصص في اجتماعيات الإعلام، في كتابه "الثورة الرقمية، ثورة ثقافية؟"، جد مختلفة عن باقي الأسواق التقليدية؛ فمن مميزاتها أنها تضع رهن إشارة المستهلك مجموعة من المنتجات الثقافية الأكثر انتشارا، وتوفر تنوعا من حيث الشكل وحجم العرض المتاح، فيجري تقديم هذا العرض طوعا من دون اختيار تحريري مسبق، بطريقة يكون فيها المستهلك قادرا على الوصول، لينهل بإرادته ويختار بنفسه.
وسّعت هذه السوق الافتراضية من أعداد العبيد بيننا جراء "الانقياد الافتراضي" الذي تشكله من زبائنها الأوفياء؛ فكثير من الأفراد فقدوا حرياتهم؛ بسبب التقنية، دون إدراك ولا وعي بأوضاعهم، عكس العبودية التقليدية المتعارف عليها من قبل الجميع. هل ثمت توصيف آخر غير الرق لمن ينشغلون بألعاب الإنترنيت لفترات تصل إلى 12 ساعة يوميا، بهدف إنشاء سلع افتراضية، مثل شخصيات أو معدات أو نقود الانخراط في اللعبة، أو للتعامل مع الخطوات الأقل تسلية في لعبة ما، كالعمل على قتل آلاف من الوحوش للانتقال إلى المستوى الأكثر إثارة في لعبة معينة. كل هذا وأكثر يباع بعد ذلك إلى لاعبين آخرين.
سبق للسوسيولوجي والمؤرخ الفرنسي جاك إليل Jacques Ellul أن نبّه إلى ما تحمله التكنولوجيا من أخطار، عندما وقف مبكرا على التحولات، وعلى الثقل الحاسم للتقنية في مجتمعاتنا. فحدد خصائصها، ووصف انبهار الإنسان بها في كتابه "الخداع التكنولوجي" le bluff technologique الصادر سنة 1988، محذرا مما اعتبره "ديانة التكنولوجيا" صاحبة الأوهام والخطاب المغري. فالتقنية بالنسبة إليه ليست محايدة حقا، وأنها في الأساس مترددة، فهي تؤدي أيا كان الاستعمال إلى عواقب إيجابية و/أو سلبية.
من دون شك، لم تكن تكنولوجيا سنوات الثمانينات داخلة بعمق في حياة وتجربة الأشخاص كما هي حاليا. إذ البيئة الرقمية اليوم تكاد تكون على وشك تغير كل شيء من حولنا، لدرجة لم يعد بمقدورنا تجاهل حقيقة ساطعة مفادها أن التقنية تطبع بالتأكيد علامتها على ذواتنا، وتثير التساؤلات حول قيمنا بما تحمله هذه التكنولوجيا في طياتها من رؤى كامنة تجاه العالم.
يعد جاك إليل وريمي ريفيل إلى جانب قلة من المفكرين ممن احتفظوا بمسافة أمان تجاه الثورة التقنية أو التكنولوجيا أو الرقمنة، بحيث لم يتشاءموا منها فيعملوا على شيطنتها بشكل مطلق، والتصدي لكل ما يأتي من جهتها. وفي ذات الآن، لم يتفاءلوا كثيرا بها حتى يحملوا لواء التبشير بما تقدمه من إمكانيات، وتسمح به من فرص.
فالثورة الرقمية اليوم، بحسب المؤرخ الفرنسي فرانسوا كارون François Caron تلتقي مع سابقاتها من الثورات في سمات مشتركة؛ ففي كل مرة نلاحظ ظهور شبكات موسعة "سكة الحديد والكهرباء والإنترنت"، مع ظهور شخصيات مبتكرة "جيمس وات وآلته البخارية، توماس أديسون وإمبراطوريته الصناعية، بيل جيتس مع ميكروسفت". وسعي نحو خلخلة طرق الإنتاج وطرق الاستهلاك، ما يوحي بظهور تصور يعزّز ميلاد إنسانية جديدة.
يحظى هذا التفسير بكثير من الصحة متى تمت قراءته في ضوء خلاصات المؤرخين منكيل؛ الأب "جون" والابن "وليام"، في كتابها "الشبكة الإنسانية: نظرة محلقة على التاريخ العالمي"، التي تفيد بأن محصلة مسار التاريخ البشري لا تعدو أن تكون تطورا مستمرا لشبكات اتصال وتفاعل تشكلت قديما، وأخذت تزداد كثافة وإحكاما على مر السنين، وبفضلها انتقلت الأفكار والتقنيات والطموحات بين الجماعات البشرية، وأدمجت كل الجماعات في شبكة عالمية موحدة تمثل دوامة من الاتصال والتفاعل المتواصلين.
يبقى المخرج إذن من هذا الوضع هو التفكير المزدوج في العصر الرقمي الذي يبدو أنه يتجاوزنا، فالضرورة أضحت ملحة لإعادة التفكير في التعامل مع أطروحة الثورة الرقمية وتداعياتها، على مجمل علاقاتنا ببعضنا، وحتى على مستوى علاقتنا بذواتنا، سعيا إلى استثمار ما يوفره هذا العصر لتحقيق الأفضل للإنسانية.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون