Author

الغرب لا يزال يترنح تحت وقع أزمة 2008

|
أستاذ جامعي ـ السويد
أعاد كثير من المفكرين وعلماء الاقتصاد إلى الأذهان الأزمة المالية الخطيرة التي وقعت في عام 2008 التي كادت تطيح بالنظام المالي وأسس الاقتصاد في الغرب. وهذا الأسبوع يمثل ذكراها العاشرة. وما لاحظته كان ظهور تحليلات ومقالات عديدة حول الموضوع ومنها كتب أكاديمية رصينة. بيد أن هناك رسالة تكاد تكون متشابهة تجمع هذه الكتابات مفادها أن الأزمة وتبعاتها لا تزال معنا والقول إنها صارت وراء ظهرنا غير صحيح. المفكرون والعلماء الذي أشبعوا هذه الأزمة وتبعاتها درسا وتمحيصا وبحثا ونقاشا يقولون إن العالم الغربي "أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية بالذات" لا يزال يعيش في الأزمة هذه ويدفع أثمانا باهظة لتبعاتها. والسبب واضح. أزمة 2008 كانت من الخطورة إلى درجة أنها قربت إلى الأذهان آلام وأوجاع الفقر المدقع الذي نتج عن الكساد العظيم في الثلاثينيات من القرن الماضي. ومن ثم أفرزت هذه الأزمة ردة فعل سلبية تكاد تكون عارمة ضد الذين يملكون ناصية العلم والمعرفة والخبرة المتراكمة، أي أنتليجنسيا. الناس بصورة عامة في الدول الغربية لم يعودوا يكترثون كثيرا لأصحاب الفكر والمنطق. قد لا يعرف القراء الكرام مدى خطورة أزمة 2008 ولكننا نحن نعيش في الغرب ونعرف كيف أنه حتى الإنسان العادي بدأ يحس أن فقدانه لكل ما يملكه تقريبا وولوجه في حلقة فقر مفزعة كانا قاب قوسين أو أدنى. والسؤال الذي راود أغلب الناس والكثير من المؤسسات عندئذ كان: كيف سمح المختصون والمستشارون والعلماء والخبراء والمفكرون ـــ أنتليجنسيا ــــ لهذه الكارثة المالية أن تقع، وكيف ولماذا لم يحذروا منها كي يتم اتخاذ إجراءات لتفاديها؟ وبدلا من أن نرى بوادر انتفاضة ضد المؤسساتية والمصارف الكبيرة التي تبتلع أموال الناس وتخدعهم من خلال تقديم قروض أو سندات من غير تغطية وافية وإغراق الأسواق بالعملة الورقية دون اعتبار للتبعات، تحولت السنوات العشر الماضية إلى ما يشبه انتقاما من الأنتليجنسيا. السنوات العشر الماضية التي تلت الأزمة المالية جعلت الناس لا تصدق ما تقدمه لها الأنتليجنسيا من بيانات وحقائق علمية وأكاديمية رصينة. السنوات العشر الماضية أفرزت شعبوية هدفها أولا محاربة أصحاب الفكر وثانيا غرس بذور وجذور الترويج للخوف من أن المال والاقتصاد في خطر ويجب مساندة كل حزب أو حكومة تتخذ أي وسيلة غايتها حماية المال والاقتصاد بغض النظر عن شرعية وإنسانية وعلمية ونزاهة تلك الوسيلة. وهناك أدلة كثيرة على أن الانتفاضة ضد أصحاب الفكر والمنطق كانت ناجعة وآتت أكلها. قبل عشر سنوات عندما قدمت مجموعة من النازيين السويديين الجدد لإقامة تجمع في المدينة التي أسكن فيها، خرجت الناس عن بكرة أبيها ضدهم وأخذ البعض يرميهم بالطماطم والبيض الفاسد. حتى الكنائس التي قلما يرتادها السويديون بدأت تقرع أجراسها محذرة من الخطر القادم. اليوم وبعد عشر سنوات على الأزمة نلاحظ بروز حزب يميني متطرف، جذوره ونشأته متشبعة بأفكار وأدبيات النازيين الجدد. ما حققه هذا الحزب في الانتخابات الأخيرة ـــ وهي ستكون موضوع رسالتنا المقبلة ـــ والمد الشعبي الذي يسانده في نظر الأنتليجنسيا السويدية ما هو إلا واحد من الإفرازات السلبية لأزمة عام 2008. وهكذا وبعد فرز نتائج الانتخابات الأخيرة، صار من الصعوبة بمكان تشكيل حكومة في السويد ما لم يكن لهذا الحزب اليميني المتطرف ضلع فيها على أضعف الإيمان، ما لم يتبن أي ائتلاف قادم بعضا من سياساته ومواقفه. ليس في السويد فقط. اليمين المتطرف أو الشعبوي وبعضه يستقي أفكاره من أدبيات النازيين الجدد له صيت وسطوة أو مشاركة في الحكم أو هو الحكم في ألمانيا والنمسا والبرتغال وإيطاليا وبلغاريا وبريطانيا وفرنسا وهلم جرا. وفي الولايات المتحدة ترى الإنتليجنسيا أن صعود المحافظين (اليمين) ولا سيما الجناح المتطرف فيهم وتسلمهم الحكم ما كان يحدث لولا تبعات أزمة عام 2008. ماذا يجمع بزوغ نجم اليمين المتطرف الشعبوي في الغرب في السنوات العشر الماضية الذي تعزوه الإنتليجنسيا إلى أزمة عام 2008؟ هناك ركائز خمس: أولا: الخوف من أن "المال"، السبب الرئيس للأزمة، في خطر وعلى هذه الشعوب العمل على حمايته وعدم تبذيره بأي وسيلة كانت كما قلنا أعلاه. ثانيا: البحث عن مسبب لأزمة المال. بدلا من دراسة الأزمة بشموليتها، وقع السيف على رأس أضعف المجموعات في الغرب التي لا حول ولا قوة لها، وهي المجموعات التي تمثل الأجانب والمختلفين عنصرا ولونا أو دينا واتهامهم بأنهم يبلعون المال ولا يقدمون أي شيء للاقتصاد. ثالثا: تبرير إجراءات وتدابير غير إنسانية ومنطقية ضد اللاجئين أو الذين يسعون للحصول على اللجوء إلى درجة خطف الأطفال من أمهاتهم ووضعهم في معسكرات خاصة. رابعا: العمل على حماية "المال" بأي وسيلة حتى وإن عارض الأسس التي بنت هذه المجتمعات نفسها وهي حرية التجارة، حيث نلاحظ الهرولة صوب الحماية وفرض الرسوم أو التعريفات الجمركية. خامسا: وهذا برأيي هو الأهم، محاربة الإنتلجنسيا ورمي كل ما تقدمه من أدلة علمية منطقية في سلة المهملات. فمثلا، لا يفيد اليوم مهما قدمنا من أدلة وبراهين أن القول إن نسبة الجريمة هي الأعلى لدى الأجانب منها لدى المواطنين الأصليين غير صحيحة ولا سند لها. لن يصدقنا هؤلاء حتى ولو كان المصدر الذي نعتمده هي سجلات الشرطة ذاتها أو الإحصاءات التي تقدمها هذه الدول لدوائر الإحصاء الدولية.
إنشرها