Author

ذكاء أبنائنا وتميزهم .. ثروة علينا تفعيلها

|

يتضمن ذكاء الإنسان، تبعا لما يطرحه عالم النفس "سي جورج بوري C. George Boeree"، ثلاث قدرات رئيسة. الأولى هي القدرة على "التعلم" وفهم الأفكار المعطاة واكتساب المعرفة منها. والثانية هي القدرة على "التحليل" الفكري، بمعنى تحليل المعرفة المكتسبة ومحاولة التعرف على: معطياتها، وأسباب ورودها، وتأثيراتها، ومقاصد هذه التأثيرات، ومداها. أما الثالثة فهي القدرة على تقديم "حلول" للمشاكل المطروحة على أساس المعرفة المكتسبة المرتبطة بها، والمحاكمة الفكرية لمعطياتها. ويختلف الناس في "مدى تميزهم" في هذه القدرات الثلاث، وغالبا ما تكون طبيعة "الموضوع" المطروح سببا لهذا الاختلاف. ويرتبط مدى تميز الذكاء في الموضوعات المختلفة "بالموهبة الطبيعية الفطرية" التي يتمتع بها الإنسان في هذا الموضوع أو ذاك، وقد يرتبط أيضا "بالموهبة المكتسبة" الناتجة عن تراكم الخبرة في موضوع التميز.
هناك، في ذكاء الإنسان وتميزه، آراء ونظريات مختلفة. ولعل أشهر هذه النظريات، نظرية "حصيلة الذكاء Intelligence Quotient: IQ" التي بدأها ألفرد بينت Alfred Binet في مطلع القرن العشرين للميلاد. يتركز الذكاء تبعا لهذه النظرية على كل من: موضوع "اللغة" والمفردات والنصوص والمعاني، من جهة؛ وموضوع "التفكير الرياضي"، الذي يشمل التعامل مع النماذج الرياضية، واستخدام المنطق في التحليل، إضافة إلى التصور الفراغي ثلاثي الأبعاد للأشكال المطروحة ومساقطها، من جهة ثانية.
وهناك، نظرية أخرى، وضعها هوارد جاردنر Howard Gardner في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، تقول "بتعددية الذكاء"Multiple Intelligence، بمعنى تعددية موضوعاته. وترى هذه النظرية أن متطلبات نظرية "حصيلة الذكاء IQ" تغطي جانبا غير كاف منه، ولا بد من الاهتمام بالجوانب الأخرى. ويبلغ عدد موضوعات نظرية تعددية الذكاء هذه "تسعة موضوعات"، قد يتميز الإنسان بموضوع أو أكثر منها، وبمستويات مختلفة. وتشمل هذه الموضوعات: "اللغة؛ والمنطق؛ والاستيعاب الذاتي؛ واستيعاب الطبيعة؛ والاستيعاب الفراغي؛ والإمكانات الحركية؛ والإمكانات الفنية؛ إضافة إلى التواصل الذاتي؛ والتواصل مع الآخرين".
تستخدم كل من نظريتي "حصيلة الذكاء" و"تعدديته" على نطاق واسع لتقييم الذكاء والمواهب من أجل تفعيل هذه المواهب والسعي إلى الاستفادة منها. ففي إطار النظرية الأولى على سبيل المثال، هناك جمعية شهيرة للحاصلين على نتائج مرتفعة في حصيلة الذكاء، أشهرها جمعية مينسا الدولية Mensa International، ومقرها بريطانيا. وتتضمن أهداف هذه الجمعية العمل على الارتقاء بفرص الاستفادة من إمكانات أعضائها. وفي إطار النظرية الثانية، على سبيل المثال أيضا، تستخدم مؤسسات تعليم الموهوبين في الولايات الأمريكية مبدأ نظرية "تعددية الذكاء" في تقييم الموهوبين، لكنها تضع تقسيمات لموضوعاتها تختلف أحيانا عن تقسيمات "جاردنر".
إضافة إلى ما سبق، ومع نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أطلق كين روبنسون Ken Robinson كتابا عنوانه "العنصر" The Element طرح فيه مبدأ جديدا "لتميز الإنسان وموهبته" استند فيه إلى ملاحظاته حول ذلك عبر عقود. وملخص هذا المبدأ أن لكل إنسان "عنصرا" خاصا به يحمل تميزا في مجال محدد، وأن علينا اكتشاف هذا العنصر مبكرا لأن في ذلك فائدتين اثنتين. أولاهما "العطاء المتميز" الذي يستطيع الإنسان تقديمه إلى المجتمع عبر عنصره الخاص. والأخرى سعادة الإنسان ذاته في العمل المتوافق مع عنصره القادر على التميز فيه.
وهناك توجه آخر يهتم بتفعيل "تميز الإنسان"، تعمل عليه كارول دويك Carol Dweck في جامعة ستانفورد. يركز هذا التوجه على "عقلية الإنسان" Mindset، ويضعها ضمن مجال واسع يراوح بين "العقلية الثابتة"Fixed Mindset و"العقلية النامية" Growth Mindset. فالعقلية الثابتة هي العقلية التي تجيد تلقي المعرفة واستيعابها والقبول بها دون طموح إلى تطويرها وطرح الأفكار الجديدة بشأنها، واختبار هذه الأفكار بالتجربة والخطأ، خوفا من "ذنب" الوقوع في الخطأ. وهذه العقلية هي الأقرب إلى العقلية المدرسية التقليدية التي تعاقب الطالب في درجاته إذا حاول الخروج من الصندوق المدرسي التقليدي بأفكار جديدة تجريبية بهدف الإبداع والابتكار. أما العقلية النامية فهي الناتجة عن تشجيع الخروج من الصندوق والانطلاق نحو أفكار جديدة في فضاء أرحب. هذه العقلية النامية هي أمل العطاء المعرفي والتميز المنشود.
ثم هناك "أساليب التفكير" التي يدعو إليها كثيرون لتعزيز دور العقل والتميز في البحث عن التوجهات السليمة في مختلف شؤون الحياة. ولعل بين أبرز هذه الأساليب ما يدعو إليه إدوارد دو بونو Edward De Bono، منذ سبعينيات القرن العشرين، بشأن التفكير الإبداعي ومحاولة النظر إلى جميع الأمور بشكل يشمل "جوانبها" المختلفة. وقد قدم "دو بونو" منهجية للتفكير تدعى "القبعات الست" التي تعنى بالتفكير المتوازي من جوانب مختلفة، حيث تمثل كل قبعة جانبا من جوانب الأمور المطروحة. ويعد "دو بونو" أن العالم يحتاج إلى بناء مهارة التفكير لدى الإنسان ويحذر من عدم الاهتمام بذلك في كتاب، أصدره عام 2009، عنوانه "فلنفكر قبل فوات الأوان".
ليس ما سبق نظرة شاملة إلى كل ما ورد بشأن الذكاء والتميز والتفكير، بل أمثلة رئيسة حول الموضوع. على هذا الأساس نجد أنفسنا أمام مجموعة من القضايا التي يجب أن نأخذها في الاعتبار من أجل تفعيل ذكاء أبنائنا وإبراز تميزهم. نجد أنفسنا أمام الحاجة إلى تفعيل ثلاثية الذكاء: "التعلم، والتحليل، وتقديم الحلول". ونجد من حولنا خمسة محاور للذكاء والتميز والتوجه نحو تفعيلهما. نجد: "حصيلة الذكاء"؛ و"تعدديته"؛ ومبدأ "العنصر المتميز" في كل فرد، والحاجة إلى اكتشافه والاستفادة منه؛ كما نجد "العقلية النامية" و"أساليب التفكير" التي نحتاج إليها في الابتكار والتطوير والإسهام في التنمية.
ولعلنا بعد ما تقدم نتساءل: هل نقوم بما يكفي تجاه ذكاء أبنائنا؟ هل نسعى إلى اكتشاف إمكاناتهم، وتوجهاتهم وميولهم؟ وهل نعمل على بناء العقلية النامية فيهم، وتعزيز قدرتهم على التفكير واتخاذ القرارات السليمة؟. إنها مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الأسرة والمدرسة والبيئة الإعلامية والثقافية والاقتصادية في المجتمع؛ وعلى التعاون فيما بين الجميع. ولا شك أن "مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع (موهبة)" تقوم بجهود مهمة ومتميزة في هذا المجال يجب تعزيزها. إن ذكاء أبنائنا وتميزهم ثروة علينا تفعيلها.

إنشرها