Author

دبلوماسية «الجات» .. والخلافات التجارية

|
لا يمكن لمنظمة التجارة العالمية "الجات" أن تتعاطى مع تهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بالانسحاب منها بسهولة. فالولايات المتحدة ليست دولة صغيرة لا قيمة لتهديداتها، ولا ضعيفة على كل الأصعدة العالمية. والحق، أنه عرف عن ترمب تنفيذ تهديداته ووعوده منذ وصوله إلى السلطة، بما في ذلك فرض رسوم جمركية إضافية على واردات من بلدان تشكل في الواقع الكتلة الحليفة لبلاده، ناهيك عن الصين، التي تصدرت بشكل أو بآخر مشهد الخلافات التجارية مع واشنطن. كما أن الرئيس الأمريكي يتمتع بوضوح شديد، مقارنة ببقية الرؤساء الذين حكموا الولايات المتحدة، وبالتالي لا يشكل كلامه مفاجآت لأي جهة. ففي الأمس مثلا، هاجم كندا بقوة بشأن الاتفاق الذي يحاول أن يعقده معها ضمن "إصلاحات" منطقة "النافتا"، بعد أن أحدث خرقا بالفعل مع المكسيك التي وقعت معه ضمن هذا الاتفاق. منظمة التجارة العالمية هي الآن في المقدمة، وكما هو معروف فإنها تسيطر على 98 في المائة من التجارة الدولية قاطبة، وهي مؤسسة تمكنت بعد جهد جهيد أن تتوصل إلى سلسلة من القوانين على مر السنوات، لتبقي التجارة العالمية سلسة ومرنة وميسرة بقدر الإمكان. كما أنها جمعت المتناقضات تحت سقفها، وهو ما يعد إنجازا كبيرا. المطلوب من المنظمة المذكورة "بحسب ترمب" أن تعيد هيكلة مؤسساتها في نطاق "التطور"، وهو أمر صادم لها بالفعل، لأنها لم تصل إلى حالتها الراهنة إلا بعد "حروب" تفاوضية مع أغلبية بلدان العالم، كانت الولايات المتحدة في قلبها. وترمب يرى أن تأسيس المنظمة هو "أسوأ اتفاق تجاري على الإطلاق"، الأمر الذي يسعى من خلاله إلى تبرير مطالبه بالإصلاح أو إعادة الهيكلة. لا شك أن سياسة ترمب التجارية أحدثت إرباكا على الساحة الدولية. فالرجل ينطلق فقط من مفهوم محلي شعبوي، وهذا أمر لا يتواءم مع التوجهات العالمية، خصوصا لدى البلدان الكبرى، وتحديدا بين دول "مجموعة العشرين"، التي اتخذت زمام المبادرة الاقتصادية في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت عام 2008. ومن هنا يمكن النظر إلى قرار منظمة التجارة العالمية بتشكيل "خلية أزمة" للتعاطي مع التوجهات الأمريكية الجديدة. وهي تقوم بذلك في الوقت الذي تبحث فيه مستقبل الحرب التجارية التي انطلقت بالفعل بين واشنطن وعدد من العواصم المؤثرة في المشهد الاقتصادي الدولي. كما أنها تحاول الحد من آثار هذه الحرب التي دخلت مرحلة الرد والرد بالمثل، ما يترك الأجواء متوترة وخطيرة. بالطبع، لا ترغب المنظمة في مواجهة مع الولايات المتحدة. وهي آخر جهة في العالم يمكن أن تقوم بذلك. ولذلك، فإن خطتها الحالية، أن تبدأ حوارا عقلانيا مع واشنطن، يسبقه تهدئة الموقف. بالطبع، أمامها أيضا جهود لوقف الإساءة التي تتعرض لها، لكن أيضا ضمن حدود الحوار الذي يمكن أن يؤدي إلى نتائج عملية لا تنشر الأضرار على أي جهة. والحق، أن المنظمة لم تستغرب تهديد الرئيس الأمريكي، وحاولت التأكيد على أن الولايات المتحدة ودولا أخرى طالبت بالفعل بإصلاحات ضمن هذا الكيان التجاري. وهي ليست ضد الإصلاحات، على أن تكون على أساس ما تم البناء عليه، لا إعادة هيكلة شاملة. المهم أن الأيام المقبلة ستحمل تطورات لافتة في هذا المجال، ولا شك أن منظمة التجارة ستستخدم أعلى معايير الدبلوماسية لتخفيف حدة الموقف الأمريكي، ولا سيما أن العالم دخل بالفعل حربا اقتصادية تنتشر على الساحة يوما بعد يوم.
إنشرها