FINANCIAL TIMES

صناعة التدقيق تمنح شهادات خلو مزورة .. والرقابة متواطئة

صناعة التدقيق تمنح شهادات خلو مزورة .. والرقابة متواطئة

صناعة التدقيق تمنح شهادات خلو مزورة .. والرقابة متواطئة

يتمتع ستيفن هادريل بمظهر رجل يحمل ثقل العالم على كتفيه. في أحدث ظهور علني له، بدا رئيس الجهاز الرقابي للمحاسبة في بريطانيا البالغ من العمر 62 عاما متعبًا وقد كساه شعر أشيب.
هذا ليس بالأمر المستغرب، بالنظر إلى أن مجلس الإبلاغ المالي واجه في الآونة الأخيرة أكثر الانتقادات حدة في تاريخه الذي يبلغ 28 عاما.
هناك تساؤلات حول المدة التي سيبقى فيها هادريل، الذي تولى إدارة الهيئة التنظيمية خلال العقد الماضي، في منصبه.
تصاعدت الضغوط بعد الانهيار الذي أصاب في كانون الثاني (يناير) الماضي شركة كاريليون، وهي واحدة من أكبر شركات الإنشاءات في بريطانيا. أثار ذلك انتقادات شديدة ضد "كيه بي إم جي"، الشركة التي تتولى تدقيق حسابات شركة كاريليون، التي أعطت حسابات المجموعة شهادة "خلو من الأمراض" قبل تسعة أشهر فقط من تفككها وانهيارها.
كما أثار ذلك دعوات من الأكاديميين والسياسيين والمستثمرين لتفكيك سوق تدقيق الحسابات، بسبب المخاوف من أن هذه الصناعة رهينة فوق الحد للعملاء الذين تدقق حساباتهم.
مجلس الإبلاغ المالي، في نظر نقاده، هو جزء من المشكلة الأوسع. يسلط المراقبون الضوء على العلاقات الوثيقة التي تربط الجهاز التنظيمي بالشركات التي يتولى تنظيمها، ونهج التثاقل والتلكؤ في التحقيقات وسجله في فرض ما يُنظر إليه على أنه غرامات هزيلة.
يواجه الجهاز التنظيمي الآن إمكانية زواله بعد أن طلبت حكومة المملكة المتحدة إجراء مراجعة مستقلة لكفاءة الجهاز، بقيادة لجنة يرأسها السير جون كينجمان الموظف المخضرم المرموق سابقاً في جهاز الخدمة المدنية.
هادريل، الذي حقق دخلا بنحو نصف مليون جنيه استرليني في العام الماضي، ما يجعله واحدا من أعلى أصحاب الرواتب بين المسؤولين الحكوميين في بريطانيا، يتشبث بمنصبه.
بالتأكيد، فإن مجلس الإبلاغ المالي ليس أول هيئة محاسبة تواجه أزمة من حيث ثقة الجمهور.
منذ الحرب العالمية الثانية، كان لدى الولايات المتحدة ما لا يقل عن ثلاث هيئات لوضع المعايير: لجنة الإجراءات المحاسبية "1939-1959"؛ ومجلس المبادئ المحاسبية APB خلال "1959-1973" ومجلس معايير المحاسبة المالية الحالي FASB.
لقي كل أسلاف مجلس معايير المحاسبة المالية زوالهم جزئياً بسبب المخاوف من عدم استقلالهم عن المصالح الخاصة.
يعتقد كارثيك رامانا، أستاذ الأعمال والسياسة العامة في كلية بلافاتنيك للدراسات الحكومية في جامعة أكسفورد، أن هيئات المحاسبة تواجه مجموعة خاصة من التحديات. وقال "هذه مجالات فنية للغاية تتعلق بقضايا ذات أهمية سياسية منخفضة. وهم يعتمدون على المعرفة التجريبية العميقة من الممارسين، وهم عرضة للمصالح التجارية القوية والمركزة. إنه نموذج تم تصميمه بشكل مثالي لإيقاع الأجهزة التنظيمية في قبضة الشركات".
هذه التهمة بالتأكيد تتصدر الورقة من الذين يتَحدّون مجلس الإبلاغ المالي في بريطانيا. هذا الجهاز التنظيمي، الذي طالما كان يتعرض للانتقادات بسبب "لمسته الخفيفة" عندما يراقب شركات التدقيق الأربع الكبرى، التي تشمل إي واي، وبرايس ووترهاوس كوبرز، وديلويت، وكيه بي إم جي، وقع تحت مرمى النيران بصدد تحقيقاته في فشل بنك إتش بي أو إس HBOS، أحد أكبر المصارف في بريطانيا.
أعطت شركة كيه بي إم جي حسابات بنك إتش بي أو إس HBOS شهادة خلو من الأمراض المحاسبية في شباط (فبراير) 2008، قبل ثمانية أشهر من انهيار المصرف، وتعين إنقاذه من خلال خطة بقيمة 20 مليار جنيه بتمويل من دافعي الضرائب.
ومع ذلك، استغرق الأمر من مجلس الإبلاغ المالي ثماني سنوات، مع قدر كبير من التحريض السياسي، حتى قبل أن يطلق تحقيقا في الموضوع.
أصدر الجهاز حكمه في شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، الذي برَّأ فيه شركة كيه بي إم جي من سوء التصرف، بعد أن قرر أن تدقيق حسابات بنك إتش بي أو إس HBOS لم "يقصر بشكل كبير" عن المعايير المتوقعة.
ثم تبين في وقت لاحق أن الجهاز التنظيمي رفع البرهان على سوء السلوك في عام 2013. وبدلاً من "التقصير في اتباع المعايير"، كان على الشركات "حتى تدان" أن تقصر "بشكل لا يستهان به".
بول جورج، شريك سابق في شركة كيه بي إم جي، كان المدير التنفيذي المسؤول عن السلوك في الجهاز المنظم عندما تم تغيير الصياغة.
وقد أثار الحكم الصادر استياء المراقبين، الذين يخشون من أن المصالح المكتسبة لعبت دوراً في النتيجة.
هذه النزاعات ليست فريدة من نوعها بالنسبة إلى بريطانيا. يشير تحليل صحيفة فاينانشيال تايمز إلى سبع سلطات مشاركة في سوق التدقيق، تعتمد بشكل كبير على موظفي الشركات الأربع الكبار الحاليين والسابقين.
خذ كمثال المجموعة الاستشارية الأوروبية للإبلاغ المالي، التي تقدم المشورة للمفوضية الأوروبية بشأن قواعد المحاسبة. إن نصف أعضاء مجلس الإدارة السبعة عشر هم من الشركات الأربع الكبيرة حاليا أو في السابق، وكذلك تسعة من بين 16 فردًا في مجموعة العمل الفنية التابعة لها.
في جهاز بي سي أيه أو بي PCAOB المنظم للمحاسبة في الولايات المتحدة، اثنان من أعضاء مجلس إدارتها الخمسة هما موظفان سابقان في الشركات الأربع الكبيرة.
كما أن أربعة من المستشارين السبعة لأعضاء مجلس الإدارة المذكورين هم أيضا من خريجي الشركات الكبرى.
هيئة الرقابة المحاسبية في جنوب إفريقيا، التي تخضع لتمحيص مكثف هذا العام بعد فضائح محاسبية بارزة، لديها أربعة موظفين سابقين أو حاليين من الشركات الأربع الكبرى في مجلس إدارتها المكون من سبعة أعضاء.
قلة من الناس هي التي تعترض على أنه ينبغي أن يكون لدى كبار المحاسبين في العالم بعض القول في القواعد التي يطبقونها؛ السؤال هو المكان الذي يجب أن يكون فيه التوازن.
إيريك جوردون، الأستاذ في جامعة ميتشيجان، يصف المعضلة بقوله "التداخل يوجد خطر وقوع الجهاز التنظيمي في أسر الشركات، لكن استبعاد الأشخاص من الأربعة الكبار سيحرم الهيئات التنظيمية من كثير من الأشخاص الأكثر خبرة وتمرسا في هذا المجال. ليس هناك طريق سهلة للخروج".

اللجوء إلى الغرامات .. أو الطوفان

بالتالي ما مدى سيطرة الشركات على الأجهزة المنظمة؟ أحد المؤشرات المتصورة للتأثير غير المبرر هو الغرامات المنخفضة نسبياً التي تفرض على صناعتها.
"هذه الأمور مهمة لأن المستثمرين كانوا يكرهون من الناحية التاريخية معاقبة شركات التدقيق بسبب شدة ليونتها أو عدم كفاية العمل من خلال إلغاء عقودها".
مؤسسة PCAOB هي واحدة من أكثر هيئات الرقابة المحاسبية تشددا على الصعيد العالمي، بعد أن حصلت على تسوية بقيمة ثمانية ملايين دولار من شركة ديلويت - برازيل Deloitte Brazil في عام 2016. أصدر مجلس الإبلاغ المالي عقوبة قياسية خاصة به قدرها 6.5 مليون جنيه استرليني في حزيران (يونيو) الماضي ضد شركة برايس ووترهاوس كوبرز.
وتبلغ أكبر الغرامات التي تم إصدارها من قبل الهيئات الرقابية المحاسبية في هولندا وألمانيا وجنوب إفريقيا 2.2 مليون يورو و50 ألف يورو و200 ألف ريال على التوالي.
هذه الأرقام تتضاءل مقارنة بالعقوبات الصادرة ضد المصارف وشركات الخدمات المالية الأخرى.
في عام 2010، أصدرت لجنة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية غرامة قياسية تبلغ 550 مليون دولار على بنك جولدمان ساكس، في حين إن هيئة السلوك المالي في المملكة المتحدة فرضت غرامة قياسية قدرها 284 مليون جنيه استرليني في عام 2015.
يشك البعض فيما إذا كانت هذه العقوبات تحرك السلوك فعلاً. وكما يشير أحد المستثمرين، فإنه يتم دفع هذه المبالغ إلى حد كبير من قبل شركات التأمين على أي حال، وحتى لو كانت الغرامة ثلاثة أو أربعة أضعاف هذه الأرقام، فإنها لن تزيد شيئا يذكر على كونها لدغة برغوث لأي من الأربعة الكبار.
وكما هي الحال مع الأعمال المصرفية، يسود الظن أن العقوبات على الأفراد قد تكون أكثر أهمية. قرار مجلس الإبلاغ المالي الأخير الذي يحظر من الناحية العملية ستيف دينيسون، مدقق شركة برايس ووترهاوس كوبرز الذي وقَّع على حسابات شركة التجزئة بي اتش إس BHS قبل فترة وجيزة من إعلان الشركة الإفلاس، لمدة 15 عاما، يعتبر أقرب كثيرا من كونه عقوبة نووية. يقول تيم بوش، رئيس قسم الحوكمة في المجموعة الاستشارية للمساهمين بيرك "إذا واجه أي شريك حظراً مطولاً أو مدى الحياة من الصناعة، فإن ذلك سيقلل من دخله طيلة حياته. إنها عقوبة أكثر خطورة بكثير".
قام مجلس الإبلاغ المالي بعزل مدقق حسابات آخر بخلاف دينيسون في السنوات الثلاث الماضية. الأجهزة الأخرى تبدو أكثر تشددا. قامت هيئة بي سي أيه أو بي الرقابية الأمريكية PCAOB، التي تقوم بعمليات تفتيش على مستوى العالم، بحظر أو تعليق 114 شخصًا منذ بداية عام 2015.
السؤال الأكبر هو ما إذا كان يمكن هيكلة الأجهزة المنظمة للصناعة على نحو أفضل؟ وبطرق تقلل إلى الحد الأدنى من إمكانية استحواذ الشركات على الأجهزة التنظيمية.
عندما تم إنشاء هيئة فاسب FASB من رماد هيئة أيه بي بي APB في عام 1973، تم إدخال عديد من الابتكارات لتعزيز استقلالها.
أصبحت العضوية التزامًا بدوام كامل؛ لا يمكن أن تخدم في شركة ما في الوقت الذي تعمل فيه أيضا لدى جهة أخرى.
تم دعم مجلس معايير المحاسبة المالية من قبل موظفي بحوث بدوام كامل، ما يحد من ضرورة استخدام شركات المحاسبة كعكاز للمعلومات.
يمكن لمجلس الإبلاغ المالي أو الجهاز الذي يخلفه إطالة فترة "التهدئة" المطلوبة قبل أن يتمكن الخريجون من أكبر شركات المحاسبة من الانضمام إلى أجهزته.
يمكن أن تُطبق قيود مماثلة أيضًا على موظفي مجلس الإبلاغ المالي المغادرين لتخفيف مخاوف "الباب الدوار".

التمويل الكافي .. قبل المحاسبة الصارمة
تحتاج الهيئة الرقابية بشكل حاسم إلى مزيد من الموارد. وقد تلقت مبلغ 32 مليون جنيه استرليني فحسب من التمويل في عام 2016/2017، مقارنة بمبلغ 566 مليون جنيه استرليني لمصلحة هيئة السلوك المالي، و254 مليون جنيه استرليني لمصلحة هيئة تنظيم الحصافة.
المال ليس وحده هو القضية المهمة بالنسبة إلى البريطانيين أيضا. يعمل لدى هيئة بي سي أيه أو بي 783 موظفا، مع ميزانية متوقعة لعام 2018 تبلغ 260 مليون دولار، مقابل 1.6 مليار دولار للجنة الأوراق المالية والبورصات لدعم 4543 موظفا.
على نحو لا يدعو إلى الاستغراب، دفع هادريل ضد التهم التي تقول إن مجلس الإبلاغ المالي "لا حول له ولا قوة" أو إنه "عديم الفائدة" – وهي تهم وُجهت إليه من قبل نواب البرلمان في وقت مبكر من هذا العام.
وقال في مقابلة مع صحيفة فاينانشيال تايمز في آذار (مارس) الماضي "أعتقد بصفتنا جهازا تنظيميا لتدقيق الحسابات، أننا من بين أقوى الأجهزة في العالم".
ربما لا تؤدي مراجعة كينجمان إلى تفكيك تام للجهاز، ويمكن أن تؤدي إلى إعطائه صلاحيات وموارد أكبر. من المتوقع أن تستثير المراجعة تغييرا في القيادة على مستوى القمة.
لاحظ المنتقدون لسوق التدقيق أن السير جون كينجمان نفسه ليس خاليا من تضارب المصالح. رئيس مجلس إدارة "ليجال آند جنرال" عمل مع مجلس الإبلاغ المالي في دوره السابق في وزارة الخزانة.
مارك زينكولا، وهو زميل للسير جون في شركة ليجال آند جنرال، عضو في مجلس الإبلاغ المالي. السير جون واقع تحت ضغط إثبات استقلاليته. هذا ربما يتبين أنه أمر خطر بالنسبة إلى هادريل.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES