Author

من يختار لنا المعلومة: نحن أم الماكينة الذكية؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد

جمع أو استحصال المعلومات وخورزمتها صار عماد ومادة الذكاء الاصطناعي، الثورة الذكية التي ستأخذ عالمنا إلى حال لم نألفها سابقا.
هذه الثورة سيفوق وقعها تأثير أي ثورة أخرى في حياة الإنسان، حتى تلك التي نقلته من الصيد إلى الزراعة ومن الزراعة إلى الصناعة.
وكما كانت ولا تزال الكهرباء والوقود مثل النفط عصب الصناعة، فإن المعلومات وطريقة جمعها وتبويبها أصبحت سند وقوام ثورة الذكاء الاصطناعي. بيد أن الثورات الصناعية السابقة، رغم تأثيرها المباشر في حياتنا، لم تتدخل في تفاصيل حياتنا الشخصية وميولنا ورغباتنا كما هو الحال مع الثورة الذكية التي تجتاحنا اليوم.
هل نخشاها كأشخاص؟
ولِمَ لا. إذا كان أقوى رجل في العالم وهو رئيس الولايات المتحدة يتشكى من الطريقة التي تقوم بها الشركات الرقمية في جمع وتبويب المعلومات حوله وتقديمها إلى المتلقي، فمن نحن كي تكترث هذه الشركات لنا ولميولنا مواقفنا.
الرئيس الأمريكي دونالد ترمب يشكو "جوجل" و"فيسبوك" و"تويتر" بالتلاعب بالمعلومات حوله لتشويه صورته، فما بالنا نحن.
نقل وتقديم المعلومة إلى المتلقي بالطريقة التقليدية التي نعرفها ومن خلال الصحافة والإعلام يبدو لي أنه في الأفول. الصحافة باقية والصحف، رغم تعرضها لأزمات مالية نتيجة الصراع المرير للاستحواذ على واردات الإعلانات، ما زالت قائمة، لكن الناس اليوم يقرأون الصحف ويتلقون المعلومات من خلال الترتيب الخوارزمي والمعادلات الخوارزمية التي تتوصل إليها شركات عملاقة مثل "جوجل" و"فيسبوك" و"تويتر"، وغيرها.
أنا لا أستطيع التقرير وليس تحت يدي أي دراسة أكاديمية رصينة لتأييد أو رفض ما يذهب إليه الرجل الأقوى في العالم، من خلال اتهامه الشركات هذه بأنها لا تعامله بإنصاف، لا بل تحاول الحط من قدره وشأنه.
لكن المنطق دائما يبدأ بإثارة أسئلة. وأكثر سؤال أهمية هو إن كان في إمكان هذه الشركات وضع معادلات خوارزمية محددة كي تنتقص من شخصية أو دولة أو مجتمع أو ثقافة محددة.
الجواب هو نعم. لماذا؟ الكهرباء، التي ربما تعد الاكتشاف الأكثر تأثيرا في حياة البشر، لا تستطيع التأثير أو التحكم في مشاعرنا ومواقفنا وميولنا واختيارنا، حتى إن حدث أن غريما لنا أو حادثا ما قطعها عنا.
الخوارزمية تختلف. عندما تقوم الخوارزمية بتبويب وجمع ومن ثم ترتيب المعلومات حسب الأهمية أو القرب والبعد أو الموقف أو المكانة الاجتماعية أو أي معايير أخرى، فاعلم أن الترتيب هذا له دوافع محددة.
"جوجل" يتحكم فيّ، أنا الإنسان البسيط، من خلال ليس ما أريده وما أرغبه، لكن من خلال ما يراه هو أنه يقع ضمن رغباتي وطموحاتي.
ويفعل ذلك ليس لإرضائي، بل حبا في زيادة تأثيره وامتداده ومداه. كلما زاد مداه وتأثيره، زاد ريعه من الإعلان والاشتراكات وغيره.
إذا كانت الخوارزمية التي تنظم مثلا ترتيب المعلومات حسب الأهمية وموقعها في النشرة الإخبارية في "جوجل" مثلا متحيزة، فإن الناتج، أي ما سأقرأه أنا لن يكون منصفا.
عندما أبحث عن معلومات عن فلسطين أو أي منظمة فلسطينية، ، في أخبار "جوجل" وكل ما ألقاه هو سيل من الأخبار في الصحافة الغربية والإسرائيلية، عندها من حقي أن أسأل لماذا؟!
وعندما ألاحظ أن المعلومات التي تبثها صحف أو قنوات تنصف الفلسطينيين غائبة عن أخبار "جوجل" أو أنها لا تظهر في الواجهة، عندها أيضا من حقي أن أسأل لماذا؟! وهذا ما لاحظه مناصرو الرجل الأقوى في العالم وهو يقول "إنه لاحظ ذلك بنفسه، حيث رأى أن الصحف والقنوات التي تعارض مواقفه وسياساته يبرزها "جوجل" ويأتي بها في المقدمة، بينما أخبار الصحف والقنوات التي تناصره بصورة عامة تأتي في الأخير أو لا تظهر.
إن كان هذا صحيحا فهو قمة التحيز. اليوم لدينا دراسات أكاديمية رصينة تؤكد أن الإعلام في الغرب ومعه عمالقة مثل "جوجل" بصورة عامة يقدمون الأخبار والمعلومات الإيجابية عن إسرائيل، وفي الغالب لا ينشرون الأعمال السلبية، وإن نشرت فإنها تأتي في الخلفية.
لقد نزلت علينا ثورة صناعية ذكية تديرها تكنولوجيا صلدة ومتينة ومحكمة، لكنها سهلة القيادة من قبل مشغليها للتأثير في الناس والمجتمعات والثقافات.
على أي أساس يعتمد "جوجل" أو أي موقع شركة خوارزمية أخرى عند تقديم النصيحة إلي لقراءة أخبار أو كتب أو مشاهدة فيلم سينمائي أو المرور على إعلانات محددة؟
وبزيادة اعتمادنا على التواصل من خلال الحصول على المعلومة من قبل شركات لها طاقة مهولة لجمعها وتبويبها لنا، نكون بذلك قد سلمنا لغيرنا، في هذه الحالة "جوجل" وغيرها قيادة ما نقرأه وما نشاهده وما نتلقاه.
الذكاء الاصطناعي أخذنا إلى عالم جديد تديره الخوارزمية من خلال الماكينة الذكية، لكنه عالم سنفقد فيه حرية الاختيار.

إنشرها