Author

إيران وتركيا .. ومآزق المهالك الاقتصادية

|
يأتي قرار انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي مع إيران كمؤشر له عديد من الأبعاد، عن الفهم الجيد الذي تملكه الإدارة الحالية لمشكلة الشرق الأوسط، ورغبتها الجادة في حل المشكلات الراهنة. فقد جاء في مقابلة جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي - وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه - أن الإدارة الأمريكية الحالية قادرة - وفقا لهذا الفهم الجيد - على إعادة التوازن إلى المنطقة، فالتساهل مع إيران الذي توج باتفاقية 2015، مكّن إيران من التدخل في الشرق الأوسط بشكل غير مسبوق، وانتهى الأمر إلى فوضى عارمة من لبنان حتى اليمن، وأصبحت دول المنطقة - بقيادة السعودية - في مواجهة لا مفر منها مع ميليشيات إيران، التي تجد تسليحا كبيرا من طهران، حتى انتهى بالميليشيات الحوثية الإرهابية إلى إغلاق مضيق باب المندب، ولولا أن الله قد قيض للأمة العربية قيادة حاسمة وشجاعة متمثلة في الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد، لكانت ميليشيات الحوثي قد احتلت اليمن، وفرضت على مضيق باب المندب مشكلة اقتصادية هائلة، بقرصنة السفن ونشر الفوضى هناك، وهو ما سيقود إلى حرب أكثر تدميرا ورعبا. من الجيد أن الإدارة الأمريكية اليوم تعي خطر إيران، وتتفهم موقف المملكة الذي صرحت به منذ اللحظة الأولى لعقد اتفاقية 2015، وهذا الوضوح الذي تتحدث به المملكة للعالم لم تكن الإدارة الأمريكية السابقة تدرك أبعاده، ولهذا مضت في اتفاقية أدت في النهاية إلى امتداد القلاقل في الشرق الأوسط، وتوسع إيران في التسليح، وهو ما اعترفت به الإدارة الأمريكية الحالية، وتقوم بإلغاء الاتفاقية وتفرض عقوبات اقتصادية على إيران. وكما هو موقف المملكة الذي تصرح به بشكل واضح، وأنها لا تتدخل في شؤون إيران الداخلية، لكنها تريد منع حكومة الملالي من التدخل في شؤون الآخرين والشرق الأوسط خصوصا، ولهذا فإن تعزيز الضغط الاقتصادي على حكومة إيران يضعها أمام خيارات دقيقة أمام شعبها والعالم، إما التخلي عن طموحاتها التوسعية "الهتلرية"، والاهتمام بشؤونها الداخلية وتطوير التنمية في إيران، وتسهم في حل مشكلة الفقر العالمية بخطط واضحة وتخدم شعبها بذلك، أو أن تستمر في هدر مقدراتها في تسليح ميليشيات غادرة خائنة لأوطانها أولا وللشعب الإيراني في نهاية المسار، وهنا يقول بولتون "لنكن واضحين، تغيير النظام في إيران ليس سياسة أمريكية، لكن ما نريده هو تغيير هائل في سلوك النظام". وهنا تتطابق الرؤى مع المملكة، فإذا كانت السعودية لا تريد الملالي في الحكم، لكنها أيضا ليست معنية بقرارات الشعب الإيراني ولا تتدخل في الشأن الداخلي هناك، لكنها تدرك تماما أن حزمة العقوبات الاقتصادية القوية التي تستهدف مبيعات النفط الإيراني وقطاع المصارف، لها تأثير كبير بالفعل في الرأي العام داخل إيران، يكشف زيف وسوء الإدارة الحالية في طهران، فقد ارتفع معدل البطالة والتضخم، إضافة إلى خسارة الريال نصف قيمته، وهذا أدى إلى تظاهر آلاف الإيرانيين في الأسابيع القليلة الماضية احتجاجا على الارتفاع الحاد في أسعار بعض المواد الغذائية ونقص الوظائف والفساد الحكومي، وكثيرا ما تحولت الاحتجاجات على غلاء المعيشة إلى مظاهرات مناهضة للحكومة. وهذا هو الذي يجعل حكومة الملالي أمام خيارات الاستمرار في التوسع وهدر موارد إيران على الميليشيات وطموحات المرشد، أو العودة إلى الاهتمام بالشعب الإيراني الذي يريد حياة آمنة مستقرة. ومن إيران انتقالا إلى تركيا، وهي الدولة التي يعاني اقتصادها نتائج قرارات أردوغان، الذي يرتكب الأخطاء نفسها التي ترتكبها حكومة الملالي في إيران؛ فهو يحاول التدخل في شؤون الشرق الأوسط، والتوسع من خلال دعم الحكومات والمنظمات الخارجة عن القانون، التي تخالف الاتفاقيات الدولية وحقوق الجار مثل "قطر"، وكما يشير إلى ذلك بكل وضوح مستشار الأمن القومي الأمريكي، إذ يقول "إنه يمكن لأنقرة إنهاء الأزمة التي تمر بها إذا عدلت من سلوكها"، مؤكدا أن ضخ أموال قطرية لن يساعد الاقتصاد التركي. وإذا كان من المعروف اقتصاديا أن الدعم القطري لن يحل مشكلة الليرة التركية، بل هو كمن يرمي بأموال شعبه في موقد النار، إلا أن هذا يؤكد سيطرة أنقرة على القرار في الدوحة، التي جعلت أمير قطر يرضخ لضغوط أردوغان، رغم أنها ليست في مصلحة الشعب القطري. وهذه سياسة الملالي نفسها في إيران، لاستغلال ضعف الحكم في قطر. والرئيس التركي يحاول من خلال الأموال القطرية أن يثبت أن المشكلات الكبيرة التي يواجهها الاقتصاد التركي تعود إلى مجرد خلاف مع الولايات المتحدة وليس إلى سوء قراراته الاستراتيجية، وتغليب طموحات أردوغان على مصلحة الشعب التركي. وهكذا نقرأ في هذه المواقف أن استقلال القرار السعودي ووضوحه وتحمله المسؤوليات الملقاة على عاتقه في إدارة مقدرات شعبه وتغليب الحوار في الشرق الأوسط، جعل المملكة تؤثر في القرار العالمي وتسهم في حل مشكلاته الكبرى، وتمنع اندلاع حروب عالمية في المنطقة، وفي الوقت الذي تعمل فيه المملكة على رفع معدلات التنمية والاستدامة وتهتم بشأنها الداخلي، وتحاول أن ترتقي بشعبها ومصالحه الكبرى، وتسهم في إصلاح الاقتصاد العالمي، نجد شعوبا أخرى في المنطقة أصبحت أسيرة لطموحات حكومة إيران ومشكلات تركيا، وتجرها إلى مهلكة اقتصادية بسبب استلاب القرار نحو خدمة مصالح منفردة، وقضايا غير ذات صلة.
إنشرها