Author

إدارة الحشود .. منسك الحج نموذجا

|
إدارة الحشود علم يقع في الصميم في مجال السلوك الإنساني، ويمر بهذه المهمة كثير من الدول، خاصة في المناسبات الوطنية، والأعياد، والمناسبات الرياضية، حيث الجماهير الكبيرة، وفي المدن الترفيهية كـ"ديزني لاند"، التي يرتادها مئات الآلاف يوميا، إلا أن الحج - الفريضة الدينية - الذي تديره المملكة سنويا، يمثل حشدا ضخما، توفر من أجله المملكة كثيرا من الجهود والإمكانات المادية والبشرية. وأذكر في هذا المقام افتخار أحد أساتذة جامعة نيويورك الدكتور ويلبي؛ حيث كانت الجامعة ضمن برنامج سنة التفرغ، وكان افتخاره يركز على قلة الحوادث التي حدثت أثناء الاحتفال باليوم الوطني الأمريكي في الرابع من تموز (يوليو), حيث حضر الاحتفال 250 ألف شخص كما ذكر، ولم يعتقل سوى 25 شخصا؛ لسوء سلوكهم الناجم عن تعاطي الكحول، وعبَّر عن افتخاره بقوله إنها مدينة عظيمة بسكانها. موسم الحج الذي تنظمه وتديره المملكة كل عام لا يحضره مئات الآلاف، بل الملايين؛ ما يشكل تحديا كبيرا في إدارتهم؛ كي يتموا حجهم بيسر وسهولة وأمن وطمأنينة، ولعله من المناسب تسليط الضوء على المحددات والعوامل المؤثرة إيجابا أو سلبا في حسن إدارة الحشد، مهما كان النشاط الذي يحضره ويمارسه الحشد. العامل الأول عامل المكان، حيث مشاعر الحج تنحصر في كيلومترات بسيطة، يمارس فيها ملايين الحجاج مناسك الحج، وتتطلب جهودا أكبر تفوق تلك التي تحتاج إليها الجهات المسؤولة، فيما لو كانت المساحة أكبر، ففي المساحة الكبيرة تسهل الحركة، ويسهل التعامل مع الحالات الطارئة إذا ما حدثت. أما العنصر الثاني من المحددات الضاغطة، فيتمثل في عنصر الوقت، حيث مناسك الحج تتم في غضون خمسة أيام، يؤدي خلالها كل الحجاج جميع المناسك، كما هو في الشرع، وعليه لا يمكن تقسيم الوقت حسب مجاميع، فالمناسك محددة في أوقات محددة لا يمكن تقديمها أو تأخيرها. التنوع الكبير في الخلفيات الثقافية للحجاج يشكل تحديا ليس سهلا؛ إذ يفد الحجاج من دول عدة، ذات ثقافات متباينة، بعضها تحترم الأنظمة، وبعضها الآخر يفتقد ذلك، مثل أنظمة المرور والإرشادات الصحية، كما أن ثقافات تشجع على التعاون، ما يؤثر في السلوك في أداء المناسك، ولعل حملات الحج الماليزية تمثل نموذجا جيدا في الانتظام والنظافة، وترتبط بالثقافة أمية القراءة والكتابة، التي يعانيها البعض؛ إذ لا يمكن قراءة اللوحات الدالة على المشاعر ولا أماكن تقديم الخدمات. اللغة وسيلة التواصل والتفاهم بين البشر، ومن المؤكد تعدد لغات الحجاج، فقد تم توفير خدمات الترجمة المختلفة؛ لعدم إجادة كثير منهم اللغة العربية لتسهيل التفاهم بين الحجاج والقائمين على خدمتهم، رغم أن الجهود حثيثة لتعلم القائمين على الخدمة لغات الحجاج مع كثرتها، إلا أن كثرة الحجاج تمثل صعوبة في حد ذاتها للتواصل مع الجميع، كما أن افتقاد بعض حملات ومجاميع الحجاج أطرا تنظيمية تضمن توافر جميع المعلومات، ودقة الحركة، والالتزام بالتعليمات الرسمية للجهات المشرفة على المناسك - يُحدِث كثيرا من المشكلات المؤثرة في انسيابية الحركة، وهذا يحدث عند التصعيد إلى عرفات، وكذلك عند النفرة من عرفات إلى مزدلفة، إضافة إلى المشكلات التي كانت تحدث نتيجة التدافع عند رمي الجمرات قبل إنجاز مشروع الجمرات؛ حيث حُلَّت المشكلة نهائيا. الزحام الخانق، والتدافع في منسك طواف الإفاضة، وطواف الوداع تمثل مشكلة وتحديا كبيرين، رغم الجهود الجبارة التي بذلت في توسعة المسجد الحرام، خاصة توسعة المطاف الذي يستوعب 107 آلاف في الساعة الواحدة، ما يسهم في تسهيل طواف الإفاضة، وطواف الوداع، إلا أن الرغبة الشديدة عند الحجاج لإنجاز المنسك وغياب خاصية الإيثار يبقيان مشكلة قائمة ما لم يتعدل سلوك الحجاج بالثقافة، والوعي الشرعي السليم. السلوك البشري يتأثر بطبيعة الموقف والظرف والمكان الذي يوجد فيه؛ إذ إن هذه العوامل تُحدِث ضغطا على الفرد، يفقده القدرة على التفكير الجيد والمنظم، كما يفتقد الفرد القدرة على إصدار الأحكام الدقيقة والموضوعية؛ ما يترتب عليه سلوك غير متزن، وغير متروٍّ، كما أن وجود الفرد داخل حشد يُفقِده القدرة على التفكير المستقل، ويفكر بتفكير الجماعة، فما يقوم به الآخرون يُقدِم عليه ويقوم به دون معرفة إن كان مناسبا، وفي مصلحته أم لا، ودون علم بأسباب سلوك الآخرين، فأي حركة ارتدادية من أي مجموعة تؤدي بالآخرين إلى الارتداد، ومن ثم التدافع، وهذا ما يحدث في التجمعات الكبيرة؛ فالرغبة في إتمام المنسك تُحدِث حالة من الفزع والاندفاع؛ ما يؤدي بالحاج إلى السلوك بصورة غير منضبطة؛ فيزاحم الناس، ويتخطاهم دون مراعاة، أو أخذ حقوقهم في الحسبان، ولا لاعتبارات المكان والزمان. إدارة الحشود من خلال التفويج تمثل إحدى آليات التعامل مع الحجاج؛ للتقليل ما أمكن من المشكلات الناجمة عن الزحام والتدافع، وهذا الإجراء معمول به في كل الدول التي لديها مناسبات كبيرة تستدعي تنظيم حركة الحضور. في الختام عيد مبارك على الجميع وحج مبرور.
إنشرها