Author

«هاكاثون الحج» .. وآفاق المستقبل

|

تبدو كلمة "هاكاثون" غريبة عن اللغة العربية، بل غريبة أيضا عن اللغة الإنجليزية واللغات الأجنبية الأخرى. إنها كلمة مركبة تجمع بين كلمتين متداولتين بالإنجليزية: الكلمة الأولى هي Hack، التي تحمل أكثر من معنى طبقا لقاموس أكسفورد. وأحد هذه المعاني هو "اختراق البيانات، أو الوصول إليها بشكل غير شرعي"، وهذا المعنى مستبعد في كلمة "هاكاثون". ثم معنى آخر هو "التعامل مع الموضوع المطروح على أفضل وجه ممكن"، وهذا هو المعنى المستهدف في "هاكاثون". ونأتي إلى الكلمة الثانية، وهي Marathon، حيث تستخدم "هاكاثون" جزأها الثاني thon لتصبح مع الكلمة الأول Hackathon. الكلمة الثانية هذه "إغريقية الأصل"، تعود إلى أسطورة المراسل فيليبيدس Philippides، الذي حمل أخبارا سارة إلى أهل "أثينا" بانتصار جيشهم في معركة حدثت في منطقة "ماراثون" عام 490 قبل الميلاد. فقد جرى هذا المراسل مسافة طويلة دون توقف ومات عند وصوله بعد أن أعلن الخبر السار. وتستخدم كلمة ماراثون على نطاق واسع للإشارة إلى سباقات جري شعبية تشهدها مختلف مدن العالم، كما أنها باتت تطرح أيضا للإشارة إلى أي سباق لتقديم منجزات خلال فترة زمنية محددة. على أساس ما سبق، فإن كلمة "هاكاثون" المركبة تعني سباقا بين أطراف متنافسة في موضوع مطروح؛ حيث يسعى كل طرف إلى تقديم الحل الأفضل بشأنه خلال فترة زمنية محدودة. وجاء أول استخدام لكلمة "هاكاثون" في نشاط جرى في حزيران (يونيو) عام 1999 في مدينة كالجاري Calgary الكندية، وكان الموضوع المطروح فيه هو "تطوير أساليب تشفير البيانات"، تنافست فيه مجموعة من الفرق على تحقيق أفضل النتائج. وتتابعت النشاطات حول العالم تحت اسم "هاكاثون"، وتوسعت أعداد المشاركين فيها. واعتبر "هاكاثون الهند"، الذي جرى عام 2012 أكبرها، حتى جاء "هاكاثون الحج"، الذي عقد في الفترة بين 1 - 3 آب (أغسطس) 2018، ليسجل الرقم الأعلى للمشاركة حتى الآن، حيث بلغ هذا العدد نحو ثلاثة آلاف مشارك من أكثر من 50 دولة، يتنافسون كفرق يراوح عدد كل منها بين ثلاثة وخمسة مشاركين. وقد سجلت موسوعة جينيس للأرقام القياسية Guinness Book of Records ذلك بين أرقامها القياسية. وهكذا لم تعد كلمة "هاكاثون" غريبة على اللغة الإنجليزية، ولا على العربية، ولا على مختلف اللغات الأخرى التي تبنتها جميعا نطقا ومعنى. لم تقتصر أهمية "هاكاثون الحج" على كونه الأكبر في المشاركة، بل على كونه يطرح موضوعا متميزا يهم ملايين المسلمين حول العالم، في طموحهم لأداء فريضة الحج. ففي فترة الحج، تستضيف مكة المكرمة وما حولها، في منطقة محدودة المساحة، أكثر من مليوني حاج، يتحركون في نطاقها لأداء مناسك الحج. ويحتاج هؤلاء إلى خدمات متعددة تقدمها جهات مختلفة في بيئة مزدحمة ومؤقتة، لا تستغرق وقتا طويلا، لكنها تتكرر كل عام. ومن أمثلة الخدمات المطلوبة: إدارة التجمعات، وتأمين المساكن والطعام والعناية الصحية، والخدمات المالية، والاتصالات والإنترنت، وغير ذلك للحجيج أثناء أدائهم المناسك. ولأن التقنية الرقمية تستطيع تسهيل تقديم الخدمات، وجعلها أكثر فاعلية وكفاءة، فإن إيجاد حلول إلكترونية تحقق أو تسهم في ذلك أمر مطلوب يجب الاهتمام به. طلب "هاكاثون الحج" من مشتركيه تقديم "حلول رقمية" تؤدي إلى تيسير تقديم خدمات الحج وجعلها أكثر كفاءة وفاعلية لمصلحة الحجيج من جهة، ومقدمي الخدمات من جهة أخرى. وقام المشاركون بالعمل على إيجاد مثل هذه الحلول عبر فرقهم، وقدموا نتائجهم خلال الفترة المحددة، وكان هناك تقييم للنتائج، وإعلان لفوز ثلاثة فرق بالمراكز الأولى، ومنح هذه الفرق جوائز مجزية. ولعله يمكن القول إن دلالات معطيات "هاكاثون الحج" لا تقتصر على مسألة الجوائز ومن فاز بها، بل أكثر من ذلك كما هو موضح فيما يلي. إذا عدنا إلى الأسس التي يقوم عليها أي "هاكاثون"، نجد أن المشاركين فيه يمارسون "شراكة معرفية"، عبر تبادلهم المعلومات والأفكار، في إطار "فرقهم". وتسمح هذه الشراكة لهم بالنظر إلى الموضوع المطروح من جوانب مختلفة، تعزز تلاقح الأفكار وتجددها نحو إيجاد الحلول المثلى المنشودة. ويأتي ذلك مقرونا بشحنة من "التحفيز على التنافس" من أجل، ليس فقط كسب الجائزة المادية، بل إطلاق أفكار وحلول رقمية مفيدة، تحمل مقومات الإنجاز والاستمرار، والنجاح في الحياة العملية. وتضاف إلى ما سبق ملاحظة أن الفترة الزمنية المتاحة في "الهاكاثون"، لا تسمح لأي فريق مشارك بأكثر من إطلاق فكرة واعدة أو طريقة مفيدة لحل مشكلة، وربما تقديم مثال أولي لها، ولكن دون تقديم حل متكامل قابل للتنفيذ غدا؛ أي أن منجزات أي "هاكاثون" سواء فازت بجوائزه أو لم تفز تبقى بحاجة إلى مزيد من العمل كي تحقق أهدافها المنشودة. تميز "هاكاثون الحج" بطرحه موضوعا حيويا يحتاج إلى "حلول رقمية" لمشاكل عديدة، لا يمكن اختصارها في ثلاثة حلول لثلاثة موضوعات فقط، هي حصيلة الفوز في التقييم النهائي. وعلى ذلك، فلا شك أن هناك حلولا في موضوعات أخرى لم تحظ بالفوز، لكنها تحمل مزايا يمكن الاستفادة منها في تلك الموضوعات، خصوصا إذا أعطيت مزيدا من الاهتمام والعمل. ولعله من المفيد "لهاكاثون الحج" أن يشجع جميع الفرق المشاركة، الفائزة وغير الفائزة، على الاستمرار والمضي قدما في تطوير أفكارها نحو التنفيذ العملي، وربما "إقامة معرض" لها بعد زمن يكفي لاستكمال نضجها، كي تستطيع، عبر هذا المعرض، جذب رأسمال يستثمر في تحويلها إلى منتجات أو خدمات تستطيع الوصول إلى الحجيج وإلى القائمين على خدمتهم. كان "لهاكاثون الحج" الفضل في إطلاق مبدأ "الشراكة المعرفية والمنافسة المحفزة" في موضوع حيوي على مستوى المملكة، وعلى مستوى العالم بأسره. ولا شك أن هذا المبدأ قابل للتنفيذ أيضا في موضوعات أخرى كثيرة، خصوصا تلك المرتبطة بمتطلبات التنمية والتحول الرقمي في شتى المجالات. ولعله من المفيد أخيرا التأكيد على الحاجة إلى إضافة فكرة "الاستمرار والمتابعة والعرض" إلى أسلوب "هاكاثون" في "الشراكة والتحفيز"؛ للحصول على أفضل النتائج العملية القابلة للاستثمار، وتفعيل التنمية في مختلف القضايا المهمة التي يمكن طرحها في "هاكاثونات" متجددة في المستقبل.

إنشرها