default Author

هل نثق في الخبراء؟ «2 من 2»

|
من المهم مراعاة المعايير عالية المستوى والممارسات الجيدة؛ نظرا للدور الحيوي الذي تؤديه وسائل الإعلام في نقل آراء الخبراء إلى المواطنين في أي بلد ديمقراطي. ورغم وجود هذه المعايير والممارسات في معظم وسائل الإعلام التقليدية المطبوعة والمذاعة، فقد غيرت الإنترنت اقتصاديات الصناعة، فأنشأت جيلا جديدا من المدونين والصحافيين المزيفين، الذين لا يلتزمون في بعض الأحيان بمعايير الإنصاف والدقة والشفافية. وإضافة إلى ذلك، فإن الدور المتنامي لوسائل التواصل الاجتماعي في نشر الأخبار يجعل التمييز بين الصحافة الشرعية والنوع الزائف أمرا متزايد الصعوبة بالنسبة للمستهلكين. وقد تكون كل هذه الأسباب قد أدت إلى فقدان الثقة بالإعلام التقليدي في أكثر من 80 في المائة من البلدان، طبقا لـ"باروميتر إدلمان للثقة" لعام 2016، وكان تفاقم الأمور هو النتيجة الوحيدة التي ترتبت على ظهور الأخبار الزائفة وما يسمى المعادل الزائف، الذي يستتر وراء شعار الصحافة المتوازنة؛ ليمنح وقتا متساويا للمصادر الموثوقة والمصادر الأقل موثوقية. فكيف يمكن لمنتجي المعلومات والخبراء المتخصصين تحقيق التوازن بين الموثوقية وضرورة تقديم آراء معارضة؟ يمكن تطويع المعايير والمبادئ، التي يشيع استخدامها في الأوساط الأكاديمية، وتطبيقها على نطاق أوسع في عالم مراكز الأبحاث والمواقع الإلكترونية ووسائل الإعلام. وبذلك تكون المبادئ الراسخة، مثل مراجعة النظراء، والمنافسة على تمويل البحوث، والالتزام بنشر البيانات، والشفافية بشأن تضارب المصالح في المطبوعات - هي التي تقرر ما يمكن اعتباره مساهمة فكرية قيمة. فمثلا، هل ينبغي أن تصرح المراكز البحثية علانية بمصادر تمويلها؟ وهل ينبغي الكشف عن الصحافيين والمدونين إذا نشروا أو روجوا أكاذيب أو شائعات؟ وهل ينبغي أن تتحمل المنصات الرقمية مسؤولية أكبر عن محتواها من منطلق واجبها في الإبلاغ وفي حماية اسمها التجاري؟ الأدوات العامة لتقييم الجدارة بالثقة يجب أن يكون بوسع المواطنين تمييز الحقائق عن الأكاذيب من بين ما يتلقونه من معلومات فياضة. وقد أنشأت التجارة عبر الإنترنت كثيرا من الأدوات التي تقوم بهذه المهمة تحديدا؛ أي وضع تصنيفات بناء على آراء المستهلكين الآخرين، وتقديم آراء تقييمية عن مدى إمكانية التعويل على تصنيفات الأطراف الأخرى، وتوفير مقاييس للأداء، مثل مدى حداثة المعلومات المقدمة. ولكن ماذا عن عالم الأفكار؟ الواقع أن المؤسسات التقليدية تطورت في بعض المجالات لتلبية هذه الحاجة. فهناك مواقع طبية لها حجيتها، تقدم معلومات جديرة بالثقة للمرضى الواعين بما يوفر عليهم مشقة فرز المعلومات متعددة المصادر. وعلى غرار مراجعات النظراء التي تتم في الأوساط الأكاديمية، هناك مواقع لتدقيق الحقائق، تقوم بفحص ادعاءات الشخصيات العامة، وهو ما يضفي مصداقية على الأخبار وتصريحات الأفراد أو يشكك فيها. وتلتزم مدونة مبادئ الشبكة الدولية لتدقيق الحقائق بالحياد والشفافية في مصادر تمويلها ومنهجيتها، وبإصدار تصحيحات صادقة كلما تطلب الأمر. وتحاول المؤسسات الجديدة تعزيز موثوقيتها في الحالات التي شهدت تراجعا. فعلى سبيل المثال، أنشئ في المملكة المتحدة مجلس المعايير المصرفية، الذي يركز على معايير السلوك في المصارف، ومجلس معايير الدخل الثابت والعملات وأسواق السلع الأولية، الذي يضع المعايير المطلوبة في أسواق الجملة المالية، وذلك بعد حالات سوء السلوك الفاضح التي شهدتها فترة الأزمة المالية. ويجب على الكليات والجامعات أن تدرس للطلاب كيف يصبحون مستهلكين قادرين على تمييز المعلومات، كما يمكن أن يؤدي تنظيم حملات توعية عامة إلى تحسين وسائل الإعلام. ففي عالم مليء بالمعلومات، يكمن مستقبل التعليم في تدريس التفكير الناقد وحسن التقدير؛ بما يهيئ الطلاب لأن يصبحوا مواطنين مستنيرين. الحدود بين التكنوقراطية والديمقراطية مع تزايد الطابع التقني فيما يتخذ من قرارات، يظهر عدد متزايد من الخبراء غير المنتخبين، الذين يدخلون نطاق اختصاص كان مقصورا على المسؤولين الرسميين المنتخبين، وهو ما ينطوي على انعكاسات اجتماعية ضخمة. ويمكن أن تنشأ مشكلات عندما يحاول الخبراء القيام بدور الساسة، أو يحاول الساسة القيام بدور الخبراء. وبذلك يتعين مراعاة الوضوح في تحديد هذين الدورين، وإرساء قواعد المساءلة التي تعززهما. وإذا تخطى الخبراء هذا الخط، فإنهم يضعفون مصداقية خبرتهم الفنية ومسؤوليتهم المهنية. ويخاطر الساسة الذين يتخطون هذا الخط بتضليل الجمهور الذي انتخبهم لرعاية مصالحه. وتؤدي المؤسسات المستقلة، مثل جهاز الخدمة المدنية والبنوك المركزية والجامعات، دورا خاصا في توجيه الخبرات المتخصصة لتحقيق المصلحة العامة، لكن التكنوقراطية يجب أن تستمد سلطتها من الديمقراطية. ويتطلب ذلك التزاما بمساءلة الخبراء، مع زيادة القرارات التي تتطلب مساهمة فنية متخصصة. ويرى بعض النقاد أن هناك تكلفة باهظة تترتب على أنشطة، مثل عمليات التدقيق المالي، ومراقبة جودة البحوث، ومراجعات العمليات، والامتثال، وتقييمات الأثر البيئي، ومكاتب التقييم المستقل، والتحقيقات البرلمانية، وأنها تشجع على العزوف عن المخاطرة، وتصرف الموارد بعيدا عن الأعمال المهمة، لكن هذا ثمن زهيد مقابل إضفاء الشرعية على مساهمة الخبراء في صنع القرار الديمقراطي. ويعد تطبيق المعرفة وتراكمها من خلال التعليم ونشرها عبر وسائل الإعلام والمؤسسات - جزءا أساسيا من تقدم البشرية. وليست المسألة هي كيفية إدارة الأمور دون الخبراء، إنما كيفية التأكد من أن الخبراء جديرون بالثقة. والإجابة هي التواضع والصراحة بشأن حدود الخبرة المتخصصة، والتواصل الواضح، والتقييم الدقيق للأفكار، وتوفير الأدوات التي تساعد الجمهور على التمييز بين الأفكار المختلفة، والاستماع الجاد لآراء الآخرين. وسيساعد تحسين إدارة الحدود والمسؤوليات بين الخبراء والساسة على الحفاظ على التوازن بين التكنوقراطية والديمقراطية. وإذا أحسنا القيام بهذه المهمة، فسيتشكل مستقبلنا بالمعرفة والنقاش المستنير لا الجهل وضيق الأفق.
إنشرها