Author

ماذا بعد خروج جني الخوارزمية من القمقم؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد
كيف يخرج جني "الخوارزمية" ــــ المعادلة الرياضية التي اخترعها العرب المسلمون ـــ من القمقم؟ في الغالب نلجأ إلى استخدام مصطلح "الجني" و"القمقم" بصيغة مجازية للتأشير إلى ما يقع خارج إدراك الإنسان، أو إلى تنفيذ قرارات ليس في مقدور ذهننا وقوتنا العضلية القيام بها. إن تمكنا من إخراج الجني من القمقم بأي وسيلة كانت، صار بمقدورنا الحصول على طلبات أو تنفيذ قرارات خارقة للعقل والمنطق. وعندما وضع العلامة العربي المسلم، أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي، الأساس لعلم الخوارزميات والطرائق التي بإمكاننا فيها ترتيب الأرقام بشكل منطقي لحل المعضلات والمشكلات، ربما لم يدر في خلده أنه أطلق سراح جني جبار صار اليوم من المستحيل إجباره على العودة إلى قمقمه. ضع صورة تحتوي على أشكال مختلفة من البضائع والحيوانات أمام ماكينة خوارزمية ذكية، وإذا بها تقرأ بصوت عال أسماء الأشياء والحيوانات التي في الصورة. وضع صورة لعدد من الأشخاص أمام هذه الماكينة وإذا بها تقرأ بصوت عال أسماءهم وتقدم لك معلومات مذهلة عنهم. المعطيات التي كانت متوافرة للخوارزمي عندما ابتكر خوارزمياته لم تتجاوز الأرقام. المعطيات المتوافرة للماكينة الذكية التي هي عماد الثورة الصناعية الجديدة التي بدأت تطرق أبوابنا ـــ ثورة الذكاء الاصطناعي ــــ لا حدود لحجمها وطاقتها. كيف حدث هذا؟ حدث هذا عندما بدأت الماكينة تفكر ومن ثم تستنبط خوارزميات ذات تسلسلات منطقية بذاتها، ومن ثم تأسيسا على هذه التسلسلات تخرج لنا خوارزميات جديدة فيما قد يشبه حالة غير متناهية. رحم الله الخوارزمي وأسكنه فسيح جناته. بساطة ومنطقية وسهولة تسلسلاته الرقمية المنطقية مكنت العالم اليوم من الدخول في ثورة، أبسط منتج لها كان ربما يعد سحرا قبل بضعة عقود. ألا يستحق هذا العالم الجليل من العرب والمسلمين ومن ثم من المتشبعين بحضارتهم من أمثالي الاحتفاء والتقدير والتبجيل؟ نعم يستحق، وأظن أن صحيفتنا الغراء سباقة في هذا المضمار من خلال سلسلة من المقالات عنه وعن ابتكاره المدهش. وأظن أيضا أن صحيفتنا الغراء كانت سباقة لمهد السبيل للمعاجم باللغة العربية، على أمل أن تضيف إلى مفرداتها فعلا جديدا احتفاء به، حيث بدأنا نشتق فعلا خماسيا من اسمه الجليل وهو "خورزم". ولقد ظهرت للتو على صفحاتها أفعال مثل "خورزمت" و"خورزمتها" للدلالة على عمل أو فعل يشير إلى أي معادلة حسابية أو غيرها ذات تسلسل منطقي. ونأمل أيضا أن يحل مصطلح "الخوارزمية" و"الخوارزميات" محل المصطلح الأعجمي "لوغاريتم" logarithm الذي هو في الأساس الطريقة التي كان الغربيون ينطقون بها اسم العالم "الخوارزمي" باللغة اللاتينية وأصواتها. الخوارزميات آخذة في التطور، ولولاها لما كان للثورة الرقمية أي أثر اليوم. وما أن دخلنا عصر الخوارزمية حتى بدأنا ننتقل من ثورة صناعية إلى أخرى، تغير مجرى حياتنا وسلوكنا رأسا على عقب، بسرعة لم نشهدها سابقا عند تحول العالم من عقبة حضارية إلى أخرى. والتسلسلات الخوارزمية التي هي عماد الذكاء الاصطناعي الذي يستند إلى كم هائل من المعطيات قد تدخلنا في عالم لا نعرف كثيرا عن كنهه وماهيته؛ وهنا تكمن الخطورة. وما الخطورة يا ترى؟ الخطورة تنبع من أننا في طريقنا إلى تسليم ما تعلمناه من الخوارزمي وطريقته في اشتقاق معادلات وتسلسلات رياضية منطقية لحل مشكلاتنا إلى الماكينة الذكية. بمعنى آخر، بدلا من أن تنفذ الماكينة الذكية المهام والواجبات والنشاطات ضمن نطاق الخوارزميات التي يقحمها الإنسان في عقلها الذكي، صار بإمكان عقلها الذكي استنباط خوارزميات من تلقاء نفسه والبناء عليها. كل ما تحتاج إليه الماكينة الذكية هو المعلومات، التي حتى اليوم تقع تحت سيطرة الإنسان الذي يقوم بتغذيتها. ما يخشاه العالم وعلماؤه هو أن تتمكن الماكينة من جمع المعلومات وحدها، وهذا سيمكنها من دخول عالم المعلوماتية الذي يحتلنا اليوم، وبذكائها الخارق قد تبتكر خوارزميات تفوق مقدرتنا الذهنية كبشر، ومن ثم نصبح نحن في خدمتها بدلا من أن تكون هي في خدمتنا. يقول بعض علماء الخوارزميات "إنه في غياب ابتكارات محمد بن موسى الخوارزمي لربما احتاج العالم إلى ألف سنة أخرى للوصول إلى ما وصل إليه. بعد كل هذا، هل هناك جواب للسؤال الذي وضعناه عنوانا لهذا المقال؟ لست أدري، لكنني أدري أن الثورة الصناعية الحالية جذورها عربية إسلامية، وأدري أيضا أن العرب في أمس الحاجة إلى اللحاق بركبها قبل فوات الأوان.
إنشرها