Author

من يشتري «الجني»؟

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
أمضى آدم سميث "أبو الاقتصاد" جل جهده في كتابة ثورة الأمم؛ للكشف عن حقيقة القيمة وأسعار السلع، ولماذا ندفع في هذه السلعة مبلغا وفي تلك مبلغا آخر، وبعد جهد كبير ربط كل ذلك بقيمة العمل الذي تم بذله في كل سلعة. نص : بداية؛ هذه قصة حقيقية وليست من وحي الخيال، فقد ذهب صديق إلى دولة عربية لإنجاز أعمال تجارية، وفي أثناء التسوق المعتاد انتبه صديقنا لأحدهم يسير وراءه منذ فترة، وقد لاحظ أنه غريب الأطوار فعلا، ثم تقدم إليه هذا الرجل، وقال له بصدق وبحماس: هل تشتري مني "جنيا"؟ أنا أبيع "الجن". في ذهول وقلق رفض صديقنا هذا العرض، ثم مضى بسرعة أكبر في طريقه، لكن تاجر "الجن" هذا لم يتركه، فقد عاود الحديث معه وعرض عليه أنواعا مختلفة من الجن، كلها ودودة، ومطيعة، وتفعل له ما لم يخطر ببال، تنقله من عالمه الضيق إلى عالم "جني"، عالم مليء بالعجائب، وهي قادرة على حل المشكلات، وعلى السفر به حول العالم من شرقه إلى غربه، لا تأشيرات ولا جوازات سفر، ويمكنها أن تأتي بالعالم إلى يديه إذا كان لا يريد السفر. توقف صديقي لحظة أمام هذا العرض الذي لا يقاوم، وفكر، ثم فكر، وقدر أنه تاجر بالطبيعة؛ لذا قرر أن يمضي في طريقه، ويدع بائع الجن يسوق بضائعه، فمن يستطيع فعلا بيع الجني؟ وكيف له أن يعاين الصفقة ويختبر أنواعها؟ وكيف له أن يختار فيما بينها؟ وإذا كان هناك "جني" بالفعل، فكيف له أن يضمن السعر العادل للقيمة التي فيه؟ ومن يضمن ملكية الجني بعد الشراء، فقد يعود إلى هذا الرجل الغريب؟ وكيف يمكن استعادته أو بيعه إن أراد؟ وفوق هذا كله، كيف يصدُق هذا الرجل فيما يدعيه من ملكيته للجني؟ قد تضحك - عزيزي القارئ - من هذه القصة "الحقيقية"، وقد تعم المجلس تعليقات لا حصر لها، لكن يبقى السؤال الكبير: كيف تجرأ هذا الرجل الغريب بهذا العرض؟ وكيف يمكن لأحدهم فعلا أن يقول بكل ثقة إنه يبيع الجن؟ وهل فعلا وصلنا إلى هذه الحالة؟ لكن قبل أن تضع تعليقاتك، أضع أنا هذا السؤال أمامك: "كم من جنون اشترينا". فإذا كانت كلمة "جن" في العربية تعني التغطية والستر، ولهذا فقد أُطلق على الجن هذا الاسم؛ لاستتارهم عن النَّاس. والجنون هو ستر العقل وتغطيته، ولهذا، فإن كل ما نشتريه دون أن نعرف ما هو وما قيمته، فهو من باب الجنون، ولهذا أقول: نعم، كم من جنون اشترينا، كم من أشياء اشتريناها ونحن لا نعرف عنها شيئا على الحقيقة، انظر حولك تجد عجبا، ونتذكر هنا الجنون في سوق الأسهم، ثم جنون العقار، وما زال هناك من يدفع الملايين في مبنى لا يعرف شيئا عنه، ويتهدم قبل حتى أن يسكن فيه، فأي جنون هذا؟ كم من شخص دفع الملايين في أرض بور لا تستحق الآلاف، وتتساءل عن القيمة التي تحققت لرجل دفع ملايين في أرض، وسيدفع ملايين أخرى في بنائها، بينما يستطيع أن يحصل على القيمة نفسها لو استأجر المبنى نفسه، وبقي معه مبلغ يستثمره مدى الحياة في كثير من المشاريع، ويحقق الأرباح الكبيرة منه، لكنه جنون الاستهلاك الذي أصاب المجتمعات. فقد قرأت عمن يبيع طبقا من "الكباب" بقيمة تعادل راتب شهر لموظف، وهناك من يدفع في مطعم أضعاف ما قد يدفعه في غيره، فما القيمة التي رآها ولم يرها غيره، وهي تساوي كل هذه المبالغ المضاعفة، لكنه جنون الاستهلاك الذي أصاب المجتمعات، الذي يجعل المئات يقفون في طوابير للفوز بكوب من القهوة، لن يميزه عن غيره سوى بسيط المذاق، وبينما يمكن الحصول على القهوة في كل مكان. يقف بعض الناس ساعات أمام محل للفوز بمقعد، وقد أهدروا كل هذا الوقت الذي يبدو بلا قيمة لديهم، إنني أتساءل: كم من جنون اشترينا. لقد أمضى آدم سميث "أبو الاقتصاد" جل جهده في كتابة ثورة الأمم؛ للكشف عن حقيقة القيمة وأسعار السلع، ولماذا ندفع في هذه السلعة مبلغا وفي تلك مبلغا آخر، وبعد جهد كبير ربط كل ذلك بقيمة العمل الذي تم بذله في كل سلعة، ولو أنه رأى اليوم كيف أننا فقدنا حتى معنى القيمة في مشترياتنا، لمزق كتابه ذاك أو أعاد النظر فيه، ذلك أننا نمر اليوم "وجميع شعوب الأرض" بفخ ما بعد الحداثة، فخ التفكك، والفردية، والحرية الموهومة في الأسواق والشراء والاستهلاك، حتى تجد من يدفع في العلامات التجارية ما لا يحقق للإنسان قيمة أكثر من غيرها. "في هذا الزمان الذي يتوافر فيه التصنيع في كل السلع وفي كل الدول"، لكنه يدفع لمجرد إبراز فرديته، والثراء والقدرة على البذخ، وكأنه بهذه القدرة يتمثل قيمة - في نظره وحده - تستحق التضحية في مقابلها بثروات الإنتاج الأممي.. إنه الجنون ولا شيء غيره، الذي يحرك الناس لإبراز قدرتهم على شراء "بعير" بقيمة تتجاوز قيمة مصنع يدر الملايين، ويوجِد مئات الوظائف، ويحقق استدامة مالية. إنه جنون ما بعد الحداثة، التي فقد فيها الإنسان تفسيره الاقتصادي للقيمة تماما، وأصبحت رؤية الفرد لها تكفي لتفسير قراراته حتى لو بدت جنونا في نظر غيره.. إنه إشباع للذات ولو بهدر الثروات.. إنه الجنون الذي تعدى الإنسان العادي ليصيب حتى الحكومات التي تنفق المليارات في استشارات قد تستغني عنها بسؤال الناس عن حاجاتهم الفعلية.
إنشرها