شينج يانج .. هروب الناس تاركين خلفهم الموارد الهائلة

شينج يانج .. هروب الناس تاركين خلفهم الموارد الهائلة
شينج يانج .. هروب الناس تاركين خلفهم الموارد الهائلة

أول شيء تلاحظه هو الهدوء، ثم امتداد شرائط الورق البيضاء قطريًا عبر الأبواب الأمامية للمتاجر التي تبدو وكأنها أُخلِيت على عجل.
عندما تقترب بما فيه الكفاية، يمكنك قراءة الأرقام المسلسلة المطلية على جدران المنزل - WB-BUK من 1 إلى 15 في أحد الشوارع، التي تخبرك أنه لا أحد يعود إلى هذه المنازل، وأن كثيرا من الذين يعيشون هناك هم الآن قيد الاعتقال.
مرحبًا بكم في شينج يانج شمال غربي الصين بحجمها الذي يبلغ ضعف حجم ألمانيا، تمتلك المنطقة أهم أصول الطاقة في الصحاري التابعة لها: أكبر احتياطيات الغاز الطبيعي في البلاد، ونصف احتياطي الفحم، وخُمس إنتاج الصين من النفط.
وهي شريان حيوي لمبادرة الحزام والطريق للرئيس تشي جين بينج والأسواق في آسيا الوسطى والشرق الأوسط.
ومع ذلك، فقد أصبحت، خلال العامين الماضيين، مسرحا لواحدة من أقوى حملات القمع المكثفة في الصين. مئات الآلاف من الناس معتقلون خارج نطاق القانون، في خطوة كانت تتركز على طائفة الإيجور، وهي جماعة مسلمة تركية تشكل السكان الأصليين فيما يبلغ السكان عموماً نحو 23 مليون نسمة في المنطقة.
في نظر الحزب الشيوعي الحاكم، فإن الأحلام الجيوسياسية التي يراها في شينج يانج معقدة بسبب الإيجور، الذين هم بعيدون عن كونهم القوة العاملة الطيعة التي تحتاج إليها لاستغلال موارد المنطقة.
وهو عجز كانت بكين تعالجه حتى الآن من خلال التوظيف الجماعي لعمال من قومية الهان، وهي المجموعة العرقية المسيطرة في الصين. على أن تاريخ الحركات الاستقلالية الإيجورية قصيرة الأمد جعل بكين – شديدة الحساسية بشأن تايوان والتبت في الأصل – تشعر بالتوتر الشديد من الإشارة إلى موضوع الإيجور.
يقول وانج ديهوا، الأستاذ في معهد شنغهاي للدراسات الدولية: "شينج يانج عنصر حاسم في مبادرة الحزام والطريق؛ لأن اثنين من ممراتها الاقتصادية يمران عبر "المنطقة". من دون استقرار شينج يانج، لا يمكن تحقيق أي شيء آخر".
ومع ذلك، فإن خطة مصممة لتحقيق مزيد من الأمن في المنطقة حدت بشدة من حرية الحركة، حيث لا يتمكن السكان الإيجور من التنقل بحرية أو مغادرة البلاد، بعد أن تم الاستيلاء على جوازات السفر من حامليها عام 2016.
أثارت حملة القمع هذه قلق البلدان المشاركة في مبادرة الحزام والطريق – سبعة بلدان منها على الحدود مع شينج يانج، ما يوفر مخاوف من أن تشديد القبضة الأمنية قد يمتد عبر حدود الصين.
شينج يانج بعيدة تماما عن محور طريق الحرير المزدهر، الذي تتصوره الصين. وبدلاً من كونها مليئة بالنشاط، فإن بعض الأحياء في العاصمة الإقليمية أورومتشي ومدينة كبرى أخرى هي كشغر، التي كانت في السابق المدينة الأكثر حيوية من الناحية الثقافية، مهجورة ومجردة من الناس والحياة. بدلاً من ذلك، انجذبت الصين بشكل أعمق إلى حشد أمني لا نهاية له، في الوقت الذي يعترك فيه الإيجور من أجل البقاء.
للحفاظ على سيطرتها على شينج يانج، تقوم الصين ببناء واحدة من أكثر الدول القمعية تقدما - وتنفق المليارات للقيام بذلك.
يقول جيمس ليبولد، أستاذ التاريخ الصيني في جامعة لا تروب في ملبورن: "الأمران – التشديد الأمني، ومبادرة الحزام والطريق، متناقضان في جوهرهما. في رأيي، الأمن يتفوق حاليا على التنمية الاقتصادية في شينج يانج".
تضاعفت ميزانية الأمن العام في شينج يانج العام الماضي لتصل إلى 57.95 مليار رنمينبي (9.16 مليار دولار)، وفقا لإحصاءات الحكومة المحلية، وهي أعلى بثماني مرات من معدل نمو ميزانية الأمن العام في الصين.
وزادت التكاليف الأمنية عشرة أضعاف منذ عام 2009، عندما اندلعت أعمال شغب عرقية في جميع أنحاء المنطقة، ما أسفر عن مقتل المئات. ومنذ ذلك الحين، تقع هجمات دورية يُلقى فيها باللوم على أهل الإيجور، بما في ذلك هجوم بالسكاكين عام 2014 عند محطة قطار في كونمينج، في إقليم يونان الجنوبي الغربي، أدى إلى مقتل 33 شخصًا.
معظم الجهاز الأمني في شينج يانج مدعوم من الدولة للحفاظ على المشاريع التي بخلاف ذلك تتحدى المنطق الاقتصادي. سمحت الاستثمارات التي تقودها الدولة في البنية التحتية والخدمات المتعلقة بالأمن، بأن تحافظ المنطقة على معدل نمو سنوي بلغ 9.9 في المائة، من الناتج المحلي الإجمالي على مدى العقد الماضي.
تزامنت حملة القمع مع وصول تشن كوانجو، سكرتير الحزب الجديد في شينج يانج، الذي كان خارجا لتوه من فترة قضاها في منصب مسؤول الحزب البارز المسؤول عن تهدئة منطقة التبت المجاورة الشبيهة من حيث التوتر. خلال فترة ولايته القصيرة، أنشأت شينج يانج نظاما مكثفا للمراقبة الرقمية والفعلية.
شركة هيكفيجان Hikvision، أكبر صانع للكاميرات الأمنية في العالم، هي المستفيد الأول من ذلك. في العام الماضي، فازت الشركة بعقد بقيمة 368 مليون رنمينبي في مقاطعة يوتيان في شينج يانج؛ أي نحو 15 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الذي حققته المقاطعة، وذلك وفقاً للوثائق الحكومية. وتقدر قيمة مشروع ثان في مقاطعة مويو بمبلغ 300 مليون رنمينبي، أو 10 في المائة من الإيرادات السنوية للمقاطعة.
يتم تحويل أموال أخرى إلى برامج مراقبة تستخدم للتجسس على المواطنين. توصل تحليل لصحيفة فاينانشيال تايمز عن برامج الجوال التي أُجبر سكان شينج يانج على تنزيلها في العام الماضي، إلى أنها تقوم بالمسح بحثا عن بصمات أصابع رقمية تطابق الملفات غير المشروعة، وإبلاغ السلطات عندما تجدها.
امتلاك محتوى رقمي حساس هو سبب شائع للاعتقال، لذا فإن بعض الإيجور يمتنعون بشكل ملحوظ عن الهواتف الذكية، على الرغم من أنهم يعيشون في واحدة من أكثر البلدان ذات التوجه نحو الجوال في العالم.
وفقاً لتقارير وروايات مجموعات حقوق الإنسان استشهدت بها اللجنة التنفيذية للكونجرس الأمريكي بشأن الصين، فإن نصف مليون إيجوري على الأقل معتقلون أو تم اعتقالهم أخيرًا. في نيسان (أبريل) الماضي، وصف رئيسا اللجنة، وهما المشرعان ماركو روبيو وكريس سميث، شينج يانج بأنها "أكبر احتجاز جماعي لأقلية من سكان العالم اليوم". في جنوب شينج يانج، حيث العمليات البوليسية على أشدها، تم اعتقال ما يصل إلى 80 في المائة من البالغين في الأحياء الحضرية وفقا للمقيمين الباقين.
تقول ألفيا، وهي ربة منزل في كشغر: "تم سجن عدد كبير للغاية من الناس، ومعظمهم من الرجال، بسبب ما يسمى جرائم ’913‘: وهي امتلاكهم محتوى رقميا ممنوعا على هواتفهم.
وسائل الإعلام الصينية تقوم جزئيا بحجب الاختفاء المفاجئ لجزء كبير من سكان شينج يانج من خلال استيعابه في مبادرات غير مؤذية. على سبيل المثال، وفقاً لصحيفة الشعب اليومية، الناطق الرسمي باسم الحزب الشيوعي الصيني، قام برنامج وطني لتخفيف حدة الفقر بإعادة توطين 461 ألف شخص من سكان المناطق الريفية في شينج يانج خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2018. ولم يتم الرد على المكالمات الموجهة إلى حكومة مقاطعة شينج يانج وقسم الأمن العام.
الذين سافروا دوليا أو لديهم أفراد عائلات في الخارج، ولا سيما في البلدان ذات الأغلبية المسلمة، هم أيضا ضمن الأهداف. ومع تكثيف الإجراءات القمعية تم القبض حتى على الإيجور الذين يسافرون داخل الصين.
يقول عادل، وهو رجل أعمال طلب عدم الكشف عن اسم عائلته ويعيش الآن في تركيا، إن اثنين من إخوته اختفيا عام 2016. وفي وقت لاحق، أُبلغت عائلته بأن الأخوين أعيدا إلى شينج يانج واعتُقلا بسبب السفر إلى المدينة الصينية الجنوبية في جوانجتشو.
يقول عادل، الذي لم يتمكن من الاتصال بشقيقيه منذ ذلك الحين: "لا نعرف التهم الموجهة إليهما بالضبط. قيل لنا إنه تم استجوابهما حول سبب ذهابهما إلى الداخل "بعد خروجهما من شينج يانج" وحُكِم عليهما سراً".
التصعيد في الاعتقالات يمزق العائلات. تقول ديلنور آنا، وهي من الإيجور وتعيش في إسطنبول: "في المرة الأخيرة التي تحدثت فيها مع ابني، قال: ’لماذا لا تعودين فأنا أفتقدك كثيراً؟‘".
غادرت للدراسة عام 2016، وتركت ابنها البالغ من العمر خمس سنوات وابنة في السابعة من عمرها في كشغر. نتيجة المضايقة من السلطات المحلية، قام أفراد أسرتها بقطع الاتصال في نيسان (أبريل) الماضي.
وتقول، بصوت يدل على أنها بصدد البكاء: "لا يمكنك معرفة الألم الذي أشعر به كأم لعدم قدرتي على رؤية طفلاي. لم أسمع أصواتهما منذ أكثر من عام".
الشوارع الفارغة في أورومتشي وكشغر دليل غريب على الكيفية التي تخرب بها الحملة الأمنية نسيجي شينج يانج الاقتصادي والاجتماعي.
كما يقول أحد رجال الأعمال من فئة الهان لقبه دونج، الذي عاد إلى أورومتشي من مقاطعة لياونينج الشمالية ليكون أقرب إلى عائلته: "المشاكل الاقتصادية هنا ضخمة. لا يوجد عدد كاف من الناس لملء جميع الوظائف الشاغرة، وليس هناك من تبقى لشراء السلع التي لديك. تخيل ما يحدث عندما تُخرِج هذا العدد من الأشخاص".
بالنسبة لمئات الآلاف من المحتجزين، لا توجد عملية واضحة للخروج من مراكز الاحتجاز، فقد ظل كثير منهم في حبس خارج إطار القانون لأكثر من عام. يجب على مسؤولي الأمن العام أن يشهدوا شخصياً على أي معتقل لتأمين الإفراج عنهم، لكن مثل هذه الحالات نادرة.
يقول كويربان، أحد التجار في أورومتشي، بشكل يدل على الاستياء وباستخدام تورية لفصول الدعاية اليومية التي يتلقاها المعتقلون: "لا يمكنك أبدا أن ’تتعلم‘ تلك المادة بشكل جيد على نحو يكفي للخروج". تم احتجاز ابن أخيه في آذار (مارس) الماضي، بعد تلقيه مكالمة هاتفية من الشرطة في مسقط رأسه في كشغر تأمره بالعودة من أورومتشي.
عمل الوجود الأمني الضخم على خنق المعارضة، ولكن كثيرا من الناس منهم يشعرون بالغليان بهدوء نتيجة عمليات الإذلال اليومية. وكما يقول ياسينج يانج، وهو سائق في كشغر: "لماذا يتعين علي التوقف عند نقاط التفتيش بينما لا يتوقف الصينيون الهان؟ "لماذا لا يمكنني الحصول على جواز سفر، ولكن يمكن لأشخاص آخرين ذلك؟ لماذا الإيجور هم الذين يجب أن يخضعوا لهذه الممارسات الأمنية فحسب؟".
بدأ الشعور بأثر ذلك خارج المنطقة. التجارة التي كانت مزدهرة في الماضي مع جيران الصين في آسيا الوسطى وباكستان، أصيبت بالجفاف نتيجة عدم قدرة التجار الأجانب على الحصول على التأشيرات المعتادة لشهر واحد بسبب زيادة التدقيق الأمني.
شهدت مستودعات المخزون، حيث يتجمع التجار لعقد الصفقات وتفريغ البضائع وتحويل العملات، انخفاضًا في حركة المرور. وخلال عصر أحد الأيام في حزيران (يونيو) الماضي، كان أحد مستودعات أورومتشي التي يرتادها التجار في آسيا الوسطى خاليا إلى حد كبير، وأغلقت واجهات متاجرها.
من بين الذين وقعوا في الوسط، العرقية الكازاخية في الصين، التي كانت على مدى عقود تعبر الحدود بحرية بين الصين وكازاخستان. وقد جعلت هذه الحملة الأمنية ذلك أكثر صعوبة، وهي حقيقة كُشف عنها في محاكمة امرأة كازاخية صينية أجبرت على العمل في أحد مراكز الاعتقال في شينج يانج قبل الفرار إلى كازاخستان.
ضغطت السلطات الصينية ليتم تسليم سايراجول ساوتباي، لكن أسرتها أصرت على أن الطلب كان بدوافع سياسية؛ لأنها كانت تمتلك معلومات حساسة حول مراكز الاعتقال. يوم الأربعاء الماضي رفضت محكمة في كازاخستان طلب التسليم.
ما يعنيه هذا القرار القانوني للعلاقات بين كازاخستان وجارتها القوية وشريكها التجاري غير واضح. تقول وزارة الخارجية في أستانا إن الدبلوماسيين الكازاخستانيين أثاروا مرارا قضية احتجاز مواطني كازاخستان في شينج يانج.
وكانت زيارة قام بها نائب لوزير الخارجية في نيسان (أبريل) الماضي إلى أورومتشي قد أمنت إطلاق سراح مواطني كازاخستان، لكن الدبلوماسيين تجنبوا التحدث علانية خوفًا من رد فعل عنيف.
يقول أحد المحامين الكازاخستانيين البارزين الذين عملوا في مشاريع البنية التحتية الصينية في البلاد: "كازاخستان صغيرة نسبياً وتعتمد على الصين، لذا عليها أن تلعب هذه اللعبة. نحن لا نثير استياء التنين الصيني أو الدب الروسي، وإلا يمكن أن ينتهي بنا المطاف مثل شبه جزيرة القرم وجورجيا".
وعلى الصعيد الدولي، توقفت الجهود الدبلوماسية؛ لأن المسؤولين الصينيين ينفون بشكل قاطع وجود أي نوع من الاختلال في شينج يانج، واصفين مراكز الاعتقال بأنها "تدريب مهني"، كما يقول الدبلوماسيون الغربيون.
خلال لقاء بين أساتذة جامعيين أمريكيين ومسؤولين عسكريين صينيين في حزيران (يونيو) الماضي، بدا الذهول على وجه وفد بكين حين أثارت المجموعة الأمريكية الاعتقالات الجماعية والقيود الدينية في شينج يانج.
وفقا لأحد الحضور، "قال الجانب الصيني في الأساس ما يلي: ’إذا كانت هناك مشكلة في شينج يانج، فإننا سنكون على علم بها،" أي أنه ليست هناك مشكلة الآن.

الأكثر قراءة