Author

كنيدي .. وخصائص القيادة

|

استوقفتني مقولات للرئيس الأمريكي السابق جون كنيدي، الذي جاء خلال فترة حرب باردة، وتنافس شديد بين أمريكا والاتحاد السوفييتي؛ للسيطرة على العالم، وبسط نفوذ الإيديولوجية التي يتبناها كل طرف، والمقولات بينها علاقة تفسر كيف يفكر القادة العظام، ويخططون لما فيه مصلحة أوطانهم وشعوبهم، في عالم لا يرحم الضعفاء، ولا يعرف إلا القوة، والقوة المتوحشة بكل ما تعنيه هذه الكلمة. العبارة الأولى قالها حين أطلق الاتحاد السوفييتي أول مركبة فضاء، فكان الحدث مفاجئا وبقوة للعالم، ولأمريكا خصوصا، التي تقف موقف الند والمتحدي والمنافس الشرس في بسط النفوذ على العالم؛ حيث قال "إن علينا أن نعيد النظر في نظامنا التربوي؛ لمعرفة الخلل الذي يوجد فيه ونصلحه". 
ما من شك أن خلل المنظومة التربوية ينعكس على كل أنواع الخلل، سلوكية وأخلاقية وثقافية وتنموية، وهذا التفكير من قبل كنيدي المتمثل في الدعوة إلى إعادة النظر في النظام التربوي تشخيص مكَّن أمريكا من اللحاق بالاتحاد السوفييتي وهزيمته لاحقا، وذلك بخروجه من مسرح الحياة، عدا أشلاء مبعثرة؛ إذ تمت إعادة النظر إلى مناهج العلوم الأساسية كالعلوم والرياضيات، والمعلمين، وأساليب وطرق التدريس المتبعة.
المقولة الثانية يقول فيها كنيدي "نحن اليوم على أعتاب حقبة الستينيات، حقبة فيها كثير مما لا نعلمه من الفرص والتحديات والمخاطر، حقبة مليئة بالآمال والمخاطر التي لم تتحق"، وبالتأمل في هذه العبارة نلمس استشعار كنيدي خطورة المرحلة، وهذا الاستشعار لم يأت من فراغ، بل من قراءة متأنية للأوضاع العالمية، بكل جوانبها الاقتصادية والعسكرية والسياسية والإيديولوجية، وتمثل العبارة جرس إنذار للأمة الأمريكية؛ لتنهض من حالة السكون التي تعيشها، ولتستعد وتنطلق في مشوار التحدي، والمنافسة القوية على الصعيد العالمي، خاصة أن أمريكا كانت تعيش حالة رخاء اقتصادي في تلك الفترة، وغالبا يصاحب الرخاء استرخاء وكسل وتبذير وانصراف عن الأمور الجادة إلى نشاطات اللهو والترفيه، وما كتب عن فترة الستينيات يؤكد ظهور حركة الهيبز بقوة في أمريكا؛ نتيجة الرفاهية الزائدة على الحد، ما دفع الشباب إلى الهرب إلى الطبيعة، والعودة إلى حياة الخشونة، ورثاثة الملابس، وقلة النظافة، وإعفاء الشعر بصورة مقززة.
انحسرت ظاهرة الهيبز، واستمرت حياة الجد، وبناء القوة في كل معانيها؛ لأن النظام التربوي والاجتماعي، والسياسي، والقضائي، والتشريعي، والبنية الاقتصادية فيها من القوة ما مكن أمريكا حتى الوقت الراهن من التحكم في كثير من الملفات العالمية، وتوجيهها بما يخدم مصالحها، ولذا نجدها تتدخل سياسيا وعسكريا في أي قضية، وفي أي مكان من العالم. فبالنظرة المستقبلية للقائد، وبرنامج العمل الذي يرسمه، والمناسب للظروف الاجتماعية والعالمية تتحقق الأهداف مهما كانت كبيرة، أو تبدو مستحيلة طالما وجد الطموح، وأسس البرنامج على عقيدة اجتماعية راسخة، وتم الأخذ بالأساليب العلمية، بدل القرارات الفردية المتعجلة، وكما يقول كنيدي "من الممكن أن تكون لنا ثقة بالمستقبل متى ما وجدت لدينا ثقة بأنفسنا"، الثقة بالنفس في كل الجوانب، خاصة عناصر الهوية المتمثلة في الدين، واللغة، والقيم الراسخة، وما يناسب العصر من العادات والتقاليد خاصية أساسية لمن ينشد النجاح، والتعامل بندية مع الآخرين، فمن يثق بنفسه وعناصر مكونات هويته يحقق احترام الآخرين، ويكون موقفه قويا عند التعامل، والتفاوض معهم، ما يحفظ المصالح للجميع. 
العبارة الأخيرة لجون كنيدي تلخص أهم ما يميز القائد الناجح "الاختبار الصادق للقيادة، القدرة على ممارسة القيادة، ثم القيادة بقوة". أفهم من هذه العبارة أن القيادة الحقيقية تتحقق بتوافر القدرة، والقدرة - كما أفهمها - ليست قوة العنف والعدوان والظلم، بل إن القوة المقصودة قوة النظام والقانون، القوة التي تأخذ بالعدل، وتحفظ الحقوق أساسا في إدارة الوطن، القوة قوة العقل والمعرفة والصلابة النفسية، وهذا سينعكس على القوة الاقتصادية، والقوة العسكرية التي تحمي بها الديار، وتردع كل من يفكر في الإضرار بها، وإذا ما تحققت القوة وفق هذا المفهوم يتحقق تماسك المجتمع، ويقوى بناؤه، وتسوده الطمأنينة.
 

إنشرها