Author

انعكاسات العلاقات الاجتماعية على حياة الإنسان

|

تقول الدراسات الإحصائية التي ينشرها البنك الدولي: إن متوسط عمر الإنسان المتوقع عند الولادة بلغ عام 2016، 72 عاما على المستوى الدولي، وإن هذا المتوسط بلغ 75 عاما في المملكة، ووصل إلى 84 عاما في اليابان. وعندما نستخدم المتوسط في الدراسات الإحصائية، فهذا يعني أن هناك عشوائية تتمثل في وجود حالات تزيد على المتوسط، إضافة إلى حالات تنقص عن هذا المتوسط. وعلى أساس هذه الحقائق، فإن دراسة أثر أي موضوع في كامل حياة الإنسان، أو في الجزء الأكبر من هذه الحياة، يحتاج إلى زمن طويل يغطيه فريق بحثي متجدد، ينتمي أعضاؤه إلى أجيال متسلسلة، يسلم الجيل السابق نتائجه إلى الجيل اللاحق إلى أن تكتمل الدراسة، ويستخلص أثر الموضوع المطروح في حياة الإنسان. وتؤدي مثل هذه الدراسة إلى اكتشاف معارف جديدة حول حياة الإنسان، يمكن توظيفها والاستفادة منها في إنارة الطريق أمام أجيال المستقبل.
في هذا المقال نحن أمام دراسة أجرتها "جامعة هارفارد Harvard"، تُدعى "دراسة جرانت في التكيف الاجتماعي Grant Study of Social Adjustment". وتطرح الدراسة قضية "أثر العلاقات الاجتماعية في حياة الإنسان". وحياة الإنسان المطروحة في هذه الدراسة تبدأ لكل فرد من أفراد عينة الدراسة المستهدفة بسن الرشد، وتستمر حتى نهاية حياة كل شخص من أشخاص هذه العينة. وقد بلغ مجمل عدد أشخاص العينة المختارة 724 شخصا، وبلغت المدة الزمنية للدراسة 75 عاما؛ أي أن من يبقى حيا من أشخاص عينة الدراسة، بعد هذه المدة، يكون قد تجاوز التسعين عاما. وبالفعل بقي 60 شخصا من أشخاص عينة الدراسة أحياء بعد انتهائها. 
بدأت الدراسة عام 1938 وانتهت 2013. وتكونت عينة الدراسة من مجموعتين: مجموعة من خريجي الجامعة، ومجموعة من أولئك الأقل حظا الذين لم تسمح لهم ظروفهم المادية بمواصلة التعليم. وكان أبرز أشخاص المجموعة الأولى الرئيس الأمريكي الأسبق جون كنيدي John Kennedy، الذي تخرج في جامعة هارفارد عام 1940، وأصبح رئيسا للولايات المتحدة عام 1960، لكنه لم يكمل فترة رئاسته؛ بسبب اغتياله عام 1963. واستطاعت الدراسة عبر السنين تسليم راية الدراسة إلى أجيال متجددة من الباحثين يتابعون مسيرة كل فرد من أفراد عينة الدراسة بفحوص طبية، واستمارات مسحية، ومقابلات ليس معه فقط، بل مع شخصيات من أهله وأصدقائه؛ للتعرف على دور العلاقات الاجتماعية الناجحة أو غير الناجحة في حياته. 
كان آخر رئيس لفريق البحث المسؤول عن الدراسة هو روبرت ولدينجر Robert Waldinger، الأستاذ في هارفرد والمتخصص في الطب النفسي، وهو الرئيس التسلسلي الرابع للفريق، على مدى سنواتها الطوال. وقد ألقى هذا المسؤول محاضرة حولها عام 2015، وضع لها عنوانا يقول: "ماذا يجعل الحياة جميلة.. دروس مستفادة من أطول دراسة حول السعادة؟". وجاءت المحاضرة في إطار سلسلة أحاديث تيد Ted Talks الشهيرة، التي ترفع شعار "أفكار تستحق النشر"، ويجري نشرها على يوتيوب You Tube. وقد تجاوز عدد مشاهدي هذه المحاضرة حتى الآن 22 مليون مشاهد. وتعد من أكثر "أحاديث تيد" مشاهدة على مستوى العالم. وسنطرح فيما يلي النتائج الرئيسة التي عرضتها المحاضرة، وهي نتائج مفيدة لحياة كل إنسان في المستقبل.
تقول الدراسة، طويلة المدى، إن لعلاقات الإنسان الاجتماعية أثرا كبيرا في حياته على مدى العمر الذي يعيشه. فمن يتمتع بعلاقات اجتماعية إيجابية ينعم بصحة أفضل، ويعيش حياة أكثر سعادة، ومن لا يحظى بمثل هذه العلاقات، ويعيش حياة فردية مغلقة، يعاني سموما غير منظورة تضر بصحته، ويعيش حياة تتسم بالكآبة. وتشمل العلاقات الاجتماعية هنا العلاقات الأسرية وعلاقات الصداقة والعلاقات المهنية وعلاقات الأعمال والعلاقات المختلفة مع الآخرين. ولا يعتمد تميز العلاقات الاجتماعية على التوافق الكامل والاتفاق في الرأي دون أي خلافات، بل يعتمد على المحبة والثقة المتبادلة. فقد تكون هناك خلافات في أي علاقات ناجحة، لكن إدارة هذه الخلافات في "بيئة من المحبة والثقة" تذيب أي أثر سلبي لها. 
ولا تقاس العلاقات الاجتماعية بمقاييس كمية، مثل عدد معارف الإنسان أو عدد من حوله. فقد يعرف الإنسان عددا كبيرا من الناس، لكنه يبقى وكأنه في عزلة بسبب غياب مقومات العلاقات المتميزة. وقد يعرف الإنسان عددا محدودا من الناس، لكن معرفته بهم تكون وثيقة، تحقق له سعادة الحياة ونعمة الصحة. والحالة المثلى أن تكون للإنسان علاقات متميزة على نطاق واسع. ويشمل الأثر الصحي للعلاقات الاجتماعية المتميزة ليس فقط نشاطات الجسم وحيويته وتعزيز مناعته في مقاومة الأمراض المختلفة، بل يتضمن أيضا صحة الدماغ ونشاطاته الفكرية والحماية من "ألزهايمر".
جاءت هذه النتائج من أرض الواقع، كثيرون في عينة الدراسة كانت علاقاتهم الاجتماعية محدودة، وكثيرون أيضا كانت علاقاتهم متميزة، وكان هناك بالطبع من اتصفت علاقاتهم بصفات بين الاثنين؛ وهكذا برزت النتائج كمحصلة مستخلصة من الجميع. وتأتي هذه النتائج لتقدم لنا ولأجيال المستقبل نصيحة مهمة؛ هي أن علينا الاهتمام بالعلاقات الاجتماعية وتوسيع مداها وتفعيلها وتعزيز تميزها بصفات المحبة والثقة، ففي ذلك خير للجميع على مستوى الفرد، وعلى المستوى المهني، وخير أيضا للمجتمع كله. فالعلاقات الاجتماعية المتميزة تعطي الفرد صحة وسعادة، وتبني للعمل المهني من خلال الأفراد العاملين بيئة تعاونية صحية سعيدة، تعزز الإنتاجية كما ونوعا، وتقلل النزاعات، وتجعل المجتمع أكثر توافقا، وتمتعه بنشاطات أوفر وإنتاجية أعلى. وفي ذلك بالطبع فوائد كبيرة تجمع بين الجانبين الاجتماعي من ناحية، والاقتصادي من ناحية أخرى.
علينا أن نأخذ بنصيحة الدراسة، أن نعمل على بناء علاقاتنا الاجتماعية، وأن نصلح ما يحتاج منها إلى إصلاح، علينا أن نؤدي واجباتنا قبل أن نطالب الآخرين بواجباتهم، وألا نفرط في قريب أو صديق أو زميل، وعلينا أن نكسب من لم نكن نعرف، عمادنا في ذلك المحبة وبناء الثقة. ولعلنا نتذكر دائما قول الرسول - صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

إنشرها