Author

عندما تتحكم التقنية في سلوك الناس

|

السلوك البشري معقد؛ لكثرة العوامل المؤثرة فيه، فالمعرفة التي يحتويها عقل الإنسان لها فعلها في توجيه السلوك والتحكم فيه، فالمعلومة السلبية عن شيء من الأشياء تجعل الفرد حذرا من ذلك الشيء، يتجنبه ولا يقتنيه، والمعلومة الإيجابية على العكس، تجعله يقتنيه ويستفيد منه، ولنا في مجتمعنا أمثلة كثيرة، حين رفض بعض الناس البرقية وتعليم البنات، وهذا ينطبق عليه المثل القائل "الإنسان عدو ما جهل".
في وقتنا الراهن، يمر العالم بتغيرات متسارعة من الناحية التقنية، التي - بلا شك - تجلب معها تغيرات سلوكية؛ نظرا لما تنقله التقنية من خلال المتعاملين معها من معلومات، لا شك في تأثيرها في بعض المتلقين؛ لصعوبة التمييز بين الصحيح والخطأ من المعلومات؛ إذ ليس جميع من يتلقى المعلومات متخصصين في المجال الذي تتناوله المعلومة، وأقرب مثال على ذلك الفتاوى الشرعية؛ حيث تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحة نقاش وإفتاء، وبلا رادع، خاصة إذا افتُقِد الضمير، وسيطرت شهوة حب الظهور، ما جعل الساحة مليئة بالمتناقضات المعرفية، فوقع الجميع في بلبلة معرفية، تصاحبها حيرة وتردد وشك في بعض الأمور.
المشاعر ذات تأثير قوي في السلوك، وتتمثل المشاعر في الاتجاهات، وحالتي الحب والكره اللتين تُوجَدان عند الناس بإثارة عواطفهم ومشاعرهم، بخطبة عصماء مليئة بالسجع والأمثلة ووعود الإغراء الآنية أو المؤجلة، أو بقصيدة نارية تدعو إلى القيام بعمل من الأعمال، ما يثير الحماس عند المستمع؛ نظرا لاستشعاره أنه المخاطب بشأن الموضوع الذي تدعو إليه القصيدة، فيتحول إلى الرجل الشهم المقدام، الذي تصوره القصيدة، ومن ثم يتصرف، ويسلك وفق ما يحقق الهدف الذي تسعى إليه القصيدة وصاحبها، كما أن البرامج الحوارية والأفلام لها تأثيرها القوي في عواطف الناس ومشاعرهم.
العادات والتقاليد ذات تأثير في سلوك البشر، بل إنها تأسر البعض، ولا يستطيع الفكاك منها، ولا يرغب في ذلك "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون". إن سطوة العادات والتقاليد شديدة، حتى إنها تعيق بعض المجتمعات عن التقدم؛ نتيجة تمسك الناس وارتباط مشاعرهم بها، لدرجة أنهم يدافعون عنها مهما كلفهم ذلك في معاشهم، وطمأنينتهم؛ خشية أن يعيبهم الناس، ويكونون في مرمى النقد والاستهزاء.
العادات والتقاليد تظهر في لباس الناس، ومناسباتهم، وطقوسهم الاجتماعية، وأثاثهم، وترتيب بيوتهم، وعلاقاتهم معا ومع الآخرين. ومما يُلاحَظ أن التقنية الحديثة والانفتاح على العالم الخارجي أسهما في تغيير كثير من عاداتنا وتقاليدنا، كما في ملابس الشباب، ومظاهرهم، ونشاطاتهم، وتعاملهم مع الآخرين، وتنظيم نمط حياتهم، وهذا لا يعني بالضرورة سوء ما تم اكتسابه بفعل التغيرات الحضارية العامة، كما لا يعني جودتها وصحتها.
الأنظمة ذات تأثير في السلوك، خاصة في بيئات العمل، فهي التي تحدد واجبات وحقوق العاملين في المنظمة، وحسب جودة الأنظمة ومناسبتها تكون الجدوى في مستوى ونوع الإنتاجية، كما أن الأفراد يتباينون في تعاملهم، ونظرتهم إلى الأنظمة، فبعض الناس يقدس النص النظامي، ويرفع من شأنه بصورة حرفية، متناسيا المقاصد التي وُجِد من أجلها النظام، وفي هذا ضياع وتعطيل لمصالح الناس، ما يحول النظام إلى عامل إعاقة في مسيرة التنمية؛ لكثرة الإجراءات والبيروقراطية التي لا حاجة لها، حتى إن بعض المعاملات تكون عليها من الشروحات والتأشيرات ما يحير المرء، ويزيد من التكلفة وضياع المصالح؛ لكثرة الإجراءات وطول الوقت.
فئة أخرى من الناس لا تقيم وزنا للأنظمة، ولا تعيرها أي اهتمام، وهؤلاء يتسببون في ضياع الحقوق، وعدم تحقق العدالة، فالنظام بالنسبة لهم ما هو إلا أداة لتحقيق مصالحهم وأقاربهم، ومن يدور في فلكهم؛ لذا تكثر ممارسات الواسطة، وتسنم من لا يستحق مناصب ليسوا أهلا لها؛ لافتقادهم المعرفة والخصائص والمهارات المطلوبة، ما يؤثر بصورة سلبية في الأداء، وانخفاض مستوى جودة
المنتجات التقنية وتطبيقاتها، كالإنترنت و"تويتر" و"فيسبوك" و"سناب شات" و"إنستجرام"، وكلها أسهمت بصورة كبيرة في تغييرات هائلة في تفكير الناس وخياراتهم وأذواقهم وممارساتهم اليومية، حتى إن بعض تطبيقات التواصل الاجتماعي افتقدت معنى التواصل الاجتماعي. فعلى سبيل المثال، المعايدة كانت تتم في السابق بزيارة الأقارب والجيران والأصدقاء وكبار السن في منازلهم، والحديث إليهم، وإشعارهم بحب الناس وقربهم منهم. أما الآن، فقد اختُزِلت المعايدة في رسالة "واتساب"، أو رسالة نصية، ما أفقد المناسبة والمعايدة معناها وطعمها. إن تأثير تطبيقات التقنية الحديثة في سلوك الناس أوصل بعضهم إلى حالة إدمان، حتى إن العائلة افتقدت طعم جلسة أفرادها على فنجان قهوة؛ لانشغال كل فرد بجهازه. يتابع أخبار الآخرين وجديد سناباتهم، بينما لا يتفاعل مع من حوله من الأقارب أو الأصدقاء.

إنشرها