Author

نيران «بريكست» تستعر في بريطانيا

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"ستدفع بريطانيا فاتورة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، سواء خرجت باتفاق أو من دونه" ميشال بارنييه، كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي مع اقتراب الموعد النهائي لإنجاز مفاوضات خروج بريطانيا "بريكست" من الاتحاد الأوروبي، "تشتعل" المملكة المتحدة سياسيا وشعبيا، بينما لم تتحقق أي خطوة على صعيد اتفاق الانفصال. وفي الواقع كأن هذه المفاوضات لم تبدأ بعد من فرط فشلها الذريع. استقال ديفيد ديفيس وزير شؤون الانسحاب البريطاني احتجاجا على خطة رئيسة وزرائه للانسحاب، وأتى آخر هو دومينك راب، الذي ارتكب خطأ فادحا في أول تصريح علني بائس له؛ حيث قال: "لو انسحبنا من دون اتفاق، فإن بريطانيا لن تدفع فاتورة الانسحاب التي تقدر بـ44 مليار يورو". ضحك ميشال بارنييه كبير مفاوضي أوروبا بعدها كثيرا، ليُذكِّر الوزير البريطاني، بأن الفاتورة ستُدفع سواء خرجتم باتفاق أم من دونه؛ لأن القوانين التي وقعت عليها بريطانيا تفرض ذلك. رئيسة وزراء بريطانيا تريزا ماي الضعيفة المهزوزة، التي لا تستند إلى أرضية حزبية صلبة، فضلا عن أنها ترأس حكومة ائتلافية أكثر هشاشة منها، تحركت على الفور لتعلن أنها هي شخصيا ستشرف مباشرة على مفاوضات الخروج؛ أي أنها نزعت كل شيء من وزير الخروج الجديد. ماذا فعلت ماي؟ بدأت بالاتصالات الثنائية مع عدد من قادة الاتحاد الأوروبي؛ على أمل شق صف الاتحاد بشأن "بريكست"، وهذه الاتصالات تمت من وراء ظهر المفوضية الأوروبية، التي ضحكت هي الأخرى من هذه السلوكات البريطانية، ليعلن بارنييه كبير المفاوضين مرة أخرى، وبصيغة تهكمية "سياسة الاتصالات من وراء الظهر مضيعة للوقت"، ونحن نرفض عروضكم المتعلقة بالاتحاد الجمركي بعد الانفصال. كأن كبير مفاوضي الاتحاد يريد أن يقول للبريطانيين "خلصنا.. نقطة آخر السطر". لا تريزا ماي ولا غيرها من السياسيين البريطانيين يمكنه أن يتقدم على ساحة المفاوضات. الموقف الأوروبي واحد بالفعل، ولا توجد ثغرات فيه. بينما تحاول لندن أن تضمن اتفاقا تجاريا ما بعد الانفصال، يوفر لها مكاسب مختلفة، ناهيك بالطبع عن الجانب الخاص بأيرلندا الشمالية، الذي يفوق الاتفاق التجاري تعقيدا. فالمملكة المتحدة التي تسيطر على هذا الإقليم، تريد أن يكون مفتوحا كما هو الآن على جمهورية أيرلندا العضو الكامل في الاتحاد الأوروبي، لكن لا يستقيم الأمر هكذا، فحدود الاتحاد الأوروبي تنتهي عند جمهورية أيرلندا. فكيف تكون منطقة بريطانيا مفتوحة على الاتحاد، بينما المملكة المتحدة خارجه؟! علما بأن لا بريطانيا ولا غيرها يمكنها أن تغير من شكل العلاقة بين الإقليم والجمهورية؛ لأنها تشكلت ضمن اتفاق تاريخي شاركت فيه الولايات المتحدة. الذين يتابعون "بريكست" من الجانبين الأوروبي والبريطاني، يعرفون أن المشكلة أصلا لا تكمن في انسحاب بريطانيا، بل فيما بعد انسحابها، وهذه النقطة تهم المملكة المتحدة أكثر من الجانب الأوروبي؛ لأن لندن تحتاج إلى السوق الأوروبية فعلا بعد الخروج. وحتى الاتفاقات التجارية التي يمكن أن توقعها مع بلدان كبرى وصغرى عديدة حول العالم، لن تعوض كثيرا خسارتها السوق الأوروبية، بما في ذلك الاتفاق المتوقع بين بريطانيا والولايات المتحدة؛ والسبب ببساطة أن هذا الاتفاق سيكون لمصلحة الجانب الأمريكي أكثر من الجانب البريطاني. دون أن ننسى دائما، أن بريطانيا ستخسر إذا لم يكن هناك اتفاق لاحق مع الاتحاد، سوقا تضم 27 بلدا، قريبا من الحدود، ومتجانسا معها. الخروج يجب أن يستكمل في الـ30 من آذار (مارس) المقبل، ولا يمكن تمديد هذا الموعد بأي حال من الأحوال، إنما يمكن الاتفاق على فترة انتقالية طويلة نوعا ما، لكن هذه الفترة لن يكون لها معنى إذا تم الخروج من دون اتفاق، أو "خروج خشن"، كما يتردد في الأوساط البريطانية. لماذا العجب؟ إذا كانت رئيسة الوزراء نفسها تردد بصورة مستمرة أن "الخروج بلا اتفاق أفضل من الخروج باتفاق سيئ". مثل هذا التوجه منح معسكر الانفصاليين في بريطانيا مزيدا من القوة، وضرب الجهة التي لا تزال تعتقد أن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي كارثة وطنية ستدفع البلاد ثمنها سنوات بل عقودا طويلة. لنترك جانبا أولئك الذين يطالبون باستفتاء جديد على الاتفاق، الذي قد تتوصل إليه الحكومة مع الاتحاد الأوروبي. إنهم "بالمناسبة" قوة تتعاظم كلما اقترب الموعد النهائي للمفاوضات. المهم الآن على الساحة البريطانية أن تكون الحكومة موحدة أكثر مما كانت عليه سابقا. ويبدو أن هذا أمل بات مستحيلا؛ لأن الحكومة تتشرذم يوما بعد يوم، ومعها حزب المحافظين الحاكم، الذي يتقاتل داخليا بين انفصاليين شعبويين، وتيار أوروبي لا يرى مصيرا لبلاده دون الاتحاد. تمر المملكة المتحدة بمرحلة حساسة نادرة اليوم.. إنها ببساطة بلد منقسم على نفسه في مسألة تتصل بكل شيء حتى بهويته، مسألة ستبدل كثيرا من المبادئ والأساسيات.
إنشرها