Author

القطاع الخاص .. مرآة مجتمعه

|
كبير الاقتصاديين في وزارة المالية سابقا
لماذا هي مرآة؟ لأن القطاع الخاص في أي دولة أو مجتمع بشري نبت وترعرع في رحم مجتمعه. ومن يتوقع صفات وطبيعة في القطاع الخاص ليست في المجتمع فهو واهم، باستثناء صفات تتمثل خلاصتها في مدى قبول الدخول في المخاطر. فالموظفون عادة أقل في هذا القبول مقارنة بأصحاب الأعمال. أما في الصفات الأخرى كحب الدنيا، ومدى الدقة في المواعيد، وجودة الأداء، واحترام حقوق الآخرين، ونحو ذلك من الصفات - فأصحاب القطاع الخاص يتصفون بما يتصف به مجتمعهم. والنتيجة أن إصلاح وتطوير القطاع الخاص تابعان لإصلاح وتطوير المجتمع، وليس العكس، إلا في حالة سيادة قطاع خاص ما على مجتمعه وبيئته، ولا أعرف حالة في بلادنا ينطبق عليها هذا الوصف إلا حالة "أرامكو" خلال عقود من الزمن. لعل القصة التالية توضح بعض ما أقصد: مما أتذكره جيدا أثناء دراستي في أمريكا، أنني نزلت مرة خلال سفر فيما يسمى "موتيل"؛ أي فندق في طريق مسافرين. وحين تسوية حساب المغادرة في الصباح، سألتني موظفة الـ"موتيل" عما إذا كانت لدي ملحوظة، فأخبرتها أن التلفزيون لم يكن يعمل جيدا، فما كان منها إلا أن حسمت 20 في المائة من أجرة المبيت. ذكرت القصة لأحد الأصدقاء العرب في أمريكا، وقلت له: هل تتوقع أن تطبقها الفنادق البسيطة المستوى في بلداننا بصورة معتادة؟ فكان جوابه بالنفي، ليس لعيب فقط في تلك الفنادق، بل أيضا لعيب في الناس؛ ذلك أنه متوقع عادة أن يدعي كثير من النزلاء أعطالا، أو يبالغون كثيرا في وصف أعطال؛ للحصول على أعلى ما يمكنهم من حسم. والقصد أن سلوكا شائعا في المجتمع، سلبا أو إيجابا، انعكس على تصرف ورد فعل القطاع الخاص، سلبا أو إيجابا أيضا. وفي هذا المعنى قال الشاعر: وهل ينبت الخطي إلا وشيجه وتغرس إلا في منابتها النخل والمغزى أن البيئة مؤثرة فيما ينشأ ويترعرع فيها من منشآت قطاع خاص. وفي هذا لنا أن نفهم خلفية قرارات حكومية صدرت في البداية بصورة متسرعة، وهذا التسرع وضعف تقدير النتائج يعكسان بيئة تتسم بذلك في أشياء كثيرة. وقد قيض الله لولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أن يتدخل ويأمر بالتروي في مدد وتطبيق قرارات حكومية كثيرة. أخذا في الحسبان الكلام السابق، فربما يطرح سؤال عما ينبغي عمله لتحسين عمل القطاع الخاص. ينبغي - وبكل وسيلة ممكنة - أن يعمل وبقوة على تربية أفراد المجتمع على قيم ومبادئ مطلوبة لبناء مجتمع واعٍ ومتقدم اقتصاديا. ولهذا، يجب أن نهتم بتقوية الإحساس بالمسؤولية في المجتمع، وتفعيل هذا الإحساس سلوكا. ويتبع تقوية الإحساس بأهمية المسؤولية، عمل كل ما يمكن عمله لرفع مستوى إنتاجية الفرد المواطن؛ فرفع مستوى المسؤولية والإنتاجية سينعكس بالضرورة على مسؤولية وإنتاجية وطبيعة أداء القطاع الخاص. وتساعد على تحقيق ما سبق دراسة معنويات وطموحات وحماس أفراد المجتمع تجاه العمل والأداء، والعمل على رفع مستويات احترام القوانين والالتزام بتطبيقها، ورفع مستويات محاربة فساد الذمم والرشوة والتزوير وما إليها، كما أن من المطلوب بقوة عمل ما من شأنه تعويد الناس على الانضباطية. ولا شك أن لبعض القيم السائدة في المجتمع دورا كبيرا في توجيه السلوك بما يضر أو يخدم التنمية الاقتصادية. وعكس التنمية التخلف، وجزء من التخلف الاقتصادي يعود إلى سلوكيات لا تنسجم مع متطلبات التطور الاقتصادي. ومن الأمثلة وجود عادات وتقاليد تعمل على احترام أو قلة احترام الوقت والمواعيد. انتشر استخدام مصطلح التخلف الاقتصادي وكلمات أخرى ذات صلة، مثل التنمية، انتشرت بعد الحرب العالمية الثانية. وقد كان يُتوهَّم من قبل أن القطاع الخاص وحده يجلب التنمية، لكن تبين أن ذلك لا يكفي لتحقيق التنمية. من الأدلة أن ما حصل من تطور اقتصادي فيما يسمى الدول الصاعدة اقتصاديا - خاصة في شرق وجنوبي شرق آسيا، ككوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة والصين لاحقا - بَيَّن أن طبيعة عوامل البيئة الداخلية لها دور فيما حققته تلك الدول من تقدم اقتصادي. تقف على رأس هذه العوامل الداخلية سيادة الثقافة المشجعة على رفع قيمة الاجتهاد والعمل، وعلى أهمية الانضباط وجودة الأداء، وما إلى ذلك. لكن من المهم التنبيه إلى أن هذه العوامل لم تنجح وحدها في تحقيق تنمية اقتصادية، بل حُقِّقت ضمن بيئة حفزت على كسب المال من خلال اقتصاد السوق.
إنشرها