Author

لماذا ندفع لجهة حكومية خدمية لها ميزانية من المالية العامة؟

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى

من المهم في بداية هذا المقال، أن أشيد بالمهارات والقدرات الكبيرة، التي يملكها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في مجالات عدة، لكن أهمها هو الاستثمار. فمن يتتبع قرارات ولي العهد، ويتابع جهوده بدقة، يدرك تماما ما يفكر فيه، ويعترف بأنه يملك موهبة فذة في هذا الجانب، وأن لديه قدرة فائقة على اكتشاف منافذ استثمارية غير معهودة، ولعل القرارات الأخيرة بشأن مبادرة تطوير وإعادة إحياء الدرعية، جنبا إلى جنب مع جميع المبادرات الأخرى في الرياض وغيرها من المدن، ومدينة المستقبل "نيوم"، حتى الإعلان عن برنامج التخصيص، يؤكد ما ذهبت إليه. ومن المدهش فعلا، أن الأمير الشاب قد استطاع خلال فترة قصيرة جدا زرع هذه الثقافة في الحكومة والمؤسسات التنفيذية الأخرى، لكن من المهم أيضا أن ندرك الفروق هنا. فالمشكلة الاستثمارية ليست كغيرها، فهي تتطلب جرأة في القرار، وسيولة كبيرة ومرنة، وموهبة عالية في قراءة المخاطر والتنبؤ بها وتفاديها، وفهما عميقا للعلاقات الاقتصادية. ومع الأسف، هناك القليل جدا في العالم ممن يمتلكون هذه المهارات، والأمير محمد بن سلمان أحدهم - في نظري -، لكن ليس بالضرورة أن تكون تلك المواهب موجودة في الإدارة التنفيذية الحكومية وفي جميع القطاعات، ولهذا، فإن الاستثمار الحكومي يحتاج إلى مزيد من الصقل والتدريب، خاصة للقيادات، وأيضا جلسات حوار موسعة لهذه القيادات مع ولي العهد نفسه؛ لفهم أسلوبه ومهاراته، وأيضا مؤتمرات ومنتديات بهذا الخصوص.
الاستثمار في القطاع الخاص واضح، والعوائد يمكن تفسيرها، ونظرية التوزيع والتخصيص تعمل بسهولة، لكن في القطاع الحكومي تبدو الصورة صعبة، ومعقدة، وحتى يبقى هذا المقال بسيطا لغير المختصين، فسأقدم مثالا حيا على أحد الأجهزة الحكومية، التي تقدم برامج ودبلومات وشهادات متخصصة "ودون ذكر المسميات"؛ لأن المسمى ليس ضروريا بقدر فهم المشكلة التي نواجهها اليوم، التي تحتاج إلى معالجة إدارية واستثمارية عاجلة؛ لتصحيح المسارات في الاستثمار الحكومي عموما. ففي إحدى الجهات الحكومية، تم الإعلان عن برنامج تدريبي متخصص مدفوع؛ حيث يدفع المتقدم مبلغا من المال "20 ألفا مثلا"، وهنا تأتي التساؤلات تباعا: لماذا تم تقييم البرنامج بهذا السعر؟ وما العلاقة الواضحة بين استخدام أصول الجهة الحكومية وبين استثمارها والعوائد من البرنامج؟ وكيف يتم توزيع دخل البرنامج "مليون مثلا" على كل من أسهم في تلك الإيرادات؟ وما مبادئ التوزيع المستخدمة؟ 
إذن هناك برنامج تم تطويره في جهة حكومية، وهذا البرنامج يستخدم مقار ومواقع تلك الجهة الحكومية "الأرض والمباني والقاعات والتجهيزات كافة"، التي تم بناؤها وتطويرها بأموال عامة من الميزانية العامة للدولة، كما تم دفع قيمة المصروفات التشغيلية من المال العام "ميزانية الجهة"، مثل مصروفات الكهرباء والصيانة والأمن وغيرها"، وهناك طاقم إداري يعمل لأجل تشغيل هذه الأصول كافة وبأفضل طاقة، وهؤلاء يتم تعويضهم من خلال الميزانية العامة. إذن؛ لا توجد علاقة واضحة أو ارتباط بين ما تم تخصيصه من أصول وخدمات ومصروفات، وبين إيرادات هذا البرنامج المدفوع، فكيف تم تحديد تكلفته بمبلغ 20 ألفا لكل متدرب؟ هذا في جانب التخصيص، وإذا تم توزيع هذه الإيرادات، فسيتم حتما تعويض كل من قام بالتدريب في البرنامج وفقا لتكلفة الساعة "350 ريالا عن كل ساعة في الأسبوع مثلا"، وكذلك تعويض المساعدين المتعاونين في الشؤون الإدارية للبرنامج. ومرة أخرى لا توجد علاقة واضحة بين توزيع الإيرادات وبين الذين أسهموا فيها، فمثلا لم يتم توزيع أي مبلغ على شكل مخصصات لمقابلة استهلاك المباني أو الأجهزة أو حتى المصروفات العامة مثل الكهرباء وغيرها، ولا حتى تم تعويض الموظفين العاديين الذي أسهموا بطريقة غير مباشرة في نجاح البرنامج، ومن بينهم المالية والرقابة مثلا. إذن؛ هناك مشكلة كبيرة في التقييم والتوزيع، وهذه كلها تضع أسئلة لا حصر لها أيضا عن تفسير هذه الإيرادات، وهل هي عوائد استثمارات الجهة، أو ماذا يمكن القول عنها؟ 
المشكلة أعمق من مجرد تفسيرات، فالحقيقة الواضحة جدا أمامنا اليوم، وبسبب كل هذه الفوضى في العلاقات الاقتصادية الناشئة من هذه البرامج المدفوعة، أن المتدرب يدفع في الحقيقة أكثر من 20 ألفا، كيف؟ فاليوم نحن ندفع ضريبة القيمة المضافة على كل مشترياتنا، كما ندفع كثيرا من الرسوم، وهذه جميعا أصبحت تشكل ما يقارب 50 في المائة من تمويل الميزانية العامة للدولة، التي يتم إنفاقها على المصروفات التشغيلية والاستثمارية للمؤسسات الحكومية، والمفترض بعد كل هذه المدفوعات أن نحصل على الخدمات مجانا، لكن أن تأتي مؤسسة حكومية تحصل على أصولها ومصروفاتها التشغيلية من دافعي الضرائب، ثم تأخذ رسوما إضافية على برامج مدفوعة، تجعل تكلفة هذه البرامج على المتدرب أعلى بكثير من المعلن عنها، وهنا تظهر مشكلة أخرى في تحديد المستهدفين من البرامج، وهذه مشكلة استثمار في أصلها.
إذن؛ الفكر الاستثماري في الجهات الحكومية يحتاج إلى مزيد من التدريب والتعليم والثقافة الجديدة تماما، مع تخصيص جميع الأصول والمصروفات والأعمال الإدارية والتشغيلية بشكل كامل، ولا يكون هناك خلط بين الأعمال العادية التي يتم تمويلها من المالية العامة، وبين تلك التي يتم تنفيذها في مقابل إنتاج إيرادات جديدة، ثم بعد عملية التخصيص الدقيقة هذه يتم تحديد تكلفة الاستثمار والعوائد المناسبة، وتوزيعها بشكل صحيح بين ما يتم دفعه في مقابل التكلفة، وما يتم ترحيله للمالية العامة في مقابل الأصول المخصصة، وما يتم تخصيصه أيضا لمقابلة المحافظة على رأس المال والنمو المتوقع، هذا هو المفترض أن يتم في المستقبل، وهذا يحتاج إلى جهد كبير من المؤسسات خاصة التعليمية، وأن يتم فتح مجالات القبول وفقا لهذه النظرية لجميع من يرغب إذا كان قادرا على دفع تكلفة إضافية، وهذا قد يكون محل مقال آخر. 
 

إنشرها