Author

المعرفة والأخلاق .. والعمل المهني

|

أين الترابط بين ثلاثية "المعرفة والأخلاق والعمل المهني"؟ "المعرفة" في الحياة هي القاعدة التي يستند إليها "العمل المهني"، الذي يعطي "قيمة" يحتاج إليها المجتمع. الطبيب، والمدرس، والمهندس، والمزارع، والعامل، وموظف الخدمات في المجالات المختلفة، بل كل من يقوم بعمل إنما يستند في عمله إلى المعرفة، مهما كانت هذه المعرفة كبيرة ومعقدة، أو محدودة وبسيطة. وكي يكون العمل المهني مفيدا، ويعطي القيمة المطلوبة، ويحقق الغاية المرجوة، لا بد أن يقترن "بالأخلاق"، التي تحمي العمل وتبعده عن أي قصور يخل بمخرجاته؛ أي أن "العمل المهني" لا يحتاج إلى "المعرفة" المهنية الحية فقط، بل يحتاج إلى "الأخلاق"، التي تضبط العمل وتوجهه نحو الاتجاه الصحيح.
وهكذا نجد أن المعرفة في العمل المهني هي "الوسيلة"، والأخلاق هي "الحارس الأمين"، أو الضابط اللازم لأداء العمل. وتجدر الإشارة إلى أن العمل المهني لا يستند إلى المعرفة القائمة فقط، وإنما يستند أيضا إلى "التفكير السليم"، واستخدام المعرفة القائمة في استخراج معرفة جديدة مناسبة لمتطلبات العمل. وعلى ذلك فإن مفهوم المعرفة ليس ما نعرفه فقط، بل ما يمكن أن نعرفه عبر التفكير والتجديد أيضا. ويضاف إلى ذلك أن المعرفة، في إطارها العام ليست وسيلة للعمل المهني فقط، بل لقضايا الحياة الأخرى بجميع جوانبها. وكذلك الأخلاق، ليست حارسا أمينا على "العمل المهني" فقط، بل على جميع الأعمال التي يقوم بها الإنسان. والأخلاق في صلب ديننا الإسلامي الحنيف، وليس أدل على ذلك من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
ولعلنا، في النظر إلى المعرفة والأخلاق والعمل المهني، نبدأ "بنظرية المعرفة Epistemology، التي تهتم بالإجابة عن تساؤل يقول: "كيف نميز بين المعرفة الصحيحة والمعرفة غير الصحيحة؟". والإجابة التي تقدمها النظرية أن للتمييز المطلوب أسلوبين. يعتمد أحدهما على المحاكمة العقلية Rationalism، التي تبحث في الأسباب والتقييم المنطقي للمعرفة المطروحة، ومثال ذلك استخراج العلاقات الرياضية وتوثيق صحتها عبر الأدلة المنطقية. ويهتم الأسلوب الآخر بإثبات الحقائق تجريبيا Empiricism؛ أي عبر الملاحظة والتجريب وبناء الخبرة، ومثال ذلك قوانين الطبيعة المختلفة، كقانون الجاذبية الأرضية. وبالطبع يمكن استخدام الأسلوبين معا لتوثيق كثير من المعارف المختلفة. وتحتاج الممارسة المهنية إلى مثل ذلك في تعاملها مع المعرفة في مختلف مجالات العمل.
وهناك ثلاثة تساؤلات رئيسة لتصنيف المعرفة والتعامل معها في إطار العمل المهني. يرتبط التساؤل الأول بماذا What؛ أي بتحديد الموضوع المطروح للعمل المطلوب. وتأتي أهمية الموضوع من حاجة المجتمع إليه، فهناك موضوعات مهمة تحتاج إلى عدد كبير من المتخصصين، وهناك موضوعات أقل من ذلك. ويبرز بعد ذلك التساؤل الثاني ليبحث في: لماذا Why؛ أي في الأسس والمبادئ النظرية للموضوع المطروح، وفيها فهم لجوانبه المختلفة، تتيح التفكير في تطويره. ثم يأتي التساؤل الثالث بعد ذلك، وهو "كيف How"، ويختص بتوظيف المعرفة النظرية، وتحويلها إلى منتجات أو خدمات مفيدة عمليا. ولا شك أن إدراك المعرفة من خلال هذه التساؤلات مطلوب في التخطيط للأعمال المهنية المختلفة، وفي فهمها واستيعاب مضمونها، إضافة إلى الاستفادة منها على أرض الواقع.
وننتقل إلى أخلاقيات العمل المهني، ولعلنا في هذا المجال نعود إلى المصطلحات الثلاثة بهذا الشأن المعروفة على نطاق واسع. وأول هذه المصطلحات الأخلاقيات Ethics، والمصطلح الإنجليزي هنا مأخوذ عن الكلمة اليونانية Ethos. ويعرف هذا المصطلح على أنه "فهم ما هو قائم، وإدراك ما يجب أن يكون، والتوجه نحو التطوير لتحقيق الأفضل". ويحمل المصطلح صيغة "الجمع"، ويستخدم في تنظيم العمل المهني؛ حيث تقوم المؤسسات المهنية بإصدار وثائق تطرح فيها قواعد لأخلاقيات العمل المهني في مختلف المجالات، وتدعى عادة "قواعد السلوك المهني Code of Ethics. ولعل أقدم ما صدر من مثل هذه القواعد قسم أبقراط Hippocratic Oath الخاص بمهنة الطبيب، الذي يعود إلى نحو ثلاثة قرون قبل الميلاد.
المصطلح الثاني في مجال الأخلاقيات هو الواجب الأخلاقي Moral، والمصطلح الإنجليزي هنا مأخوذ عن اللغة اللاتينية Latin، لغة روما القديمة. ويحمل هذا المصطلح معنى يشابه معنى المصطلح السابق، لكنه يحمل تميزا يختص بثقافات الأمم؛ حيث يقضي "بالالتزام بقيم ومعايير الواجبات الأخلاقية الخاصة بمجتمع من المجتمعات أو أمة من الأمم". فإذا كان المصطلح الأول مستخدما في إطار السلوك الأخلاقي المهني، فالمصطلح الثاني مستخدم في إطار أخلاقيات ثقافات الأمم، بل ربما المؤسسات أيضا. والاثنان أمران يكمل أحدهما الآخر.
ونصل إلى المصطلح الثالث، في مجال الأخلاقيات، وهو الفضيلة Virtue، الذي يحمل في معناه جذورا من كلمة يونانية هي Arete تعطي وصفا لشخص "فاضل" يتمتع بصفات "الجودة الإنسانية". ويقول هذا الوصف "إن الشخص الفاضل هو ذاك المثير للإعجاب بين الناس من حيث التزامه بالواجبات الأخلاقية، واهتماماته المعرفية، وسلوكه في شؤون الحياة". ويعبر هذا المفهوم عن صفات شخصية حميدة على الإنسان أن يتحلى بها كي يحمل "قيمة لذاته" في المجتمع، و"قيمة للمجتمع الذي ينتمي إليه" بين مجتمعات العالم.
يحتاج العمل المهني إلى إنسان يحمل "قيمة". وتتمثل هذه القيمة ليس فقط في "المعرفة المناسبة" لهذا العمل، بل في "أخلاقيات العمل والجودة الإنسانية". المعرفة المطلوبة لأي عمل مهني، مهما كانت بسيطة أو معقدة، يجب أن تهتم بالأسس والتطبيقات، وأن تقترن بالتفكير والتجديد والاختبار، والقدرة على التمييز بين الصحيح منها وغير الصحيح، وبين المهم والأقل أهمية. والأخلاقيات المطلوبة تأتي من الالتزام الأخلاقي على مستوى متطلبات أخلاقيات المجتمع، وعلى مستوى احتياجات قواعد السلوك المهني الذي تحتاجه المهن المختلفة.
إن حرص كل منا على الاهتمام بالمعرفة، خصوصا في مجال العمل، وعلى الالتزام بالسلوك الإنساني الحميد في المجتمع، وفي العمل المهني، يعطيه "قيمة ذاتية، وقيمة اجتماعية، وقيمة مهنية". ولا شك أن في ذلك إسهاما في إعطاء قيمة لمؤسسات المجتمع، وللمجتمع كله، ولتنميته وازدهاره، ومستقبله المشرق بمشيئة الله.

إنشرها