Author

هل تغيرت أمريكا؟

|

تأسست أمريكا المعاصرة على أيدي الأوروبيين المهاجرين البروتستانت الهاربين من الاضطهاد الكاثوليكي؛ لذا فهي تتكون من أشتات أعراق، وانتماءات مكانية، ومذاهب، وديانات شتى، ازدادت بفعل التوسع في الهجرات، خاصة خلال فترات الرفاهية الاقتصادية؛ نظرا لتوافر المصادر الطبيعية في بلد بكر لم يتمكن السكان الأصليون الهنود الحمر من استثمارها والانتفاع بها، نظرا للتخلف العلمي، لذا استفاد المهاجرون من المصادر الطبيعية، والمعرفة والخبرات التي جلبوها معهم من بلدانهم الأصلية.
عاشت أمريكا، أو ما كان يعرف بالعالم الجديد، فترات طويلة رخاء اقتصاديا لا مثيل له، حتى أصبحت أمنية كثيرين في أنحاء العالم، وبجانب الرخاء نمت الصناعات والزراعة والمعرفة بفعل الجامعات المتميزة، التي أصبحت منارة علم يفد إليها طالبو العلم من كل حدب وصوب، حتى اعتلت سمعة جامعاتها جامعات سبقتها في التأسيس في دول أخرى، ويكفي أن نعرف أن كثيرا من علمائها حازوا جوائز عالمية، كجائزة نوبل، وجائزة الملك فيصل العالمية، وأصبحوا مراجع للباحثين والطلاب في أصناف المعرفة.
لست في صدد عرض ما تتميز به أمريكا اقتصاديا ومعرفيا وتقنيا وعسكريا، فهذه كلها تتحدث عن نفسها في تأثيرها على الصعيد العالمي، ويكفي أن نعرف أن انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية لم يكن ليتحقق لولا تدخل أمريكا في صف الحلفاء، حتى شكل هذا التدخل والانتصار نقطة فارقة في التاريخ الأمريكي؛ إذ تحولت إلى دولة ذات نفوذ وهيمنة، بفعل القوة العسكرية الجبارة، التي مكنتها من بسط نفوذها، والتدخل في أماكن عدة من العالم، في اليابان، والفلبين، وكوريا، وإفريقيا، والشرق الأوسط.
تُرى لماذا تحولت أمريكا إلى بلد مهيمن، إن لم يكن استعماريا، ولكن بصورة مختلفة عن الاستعمار التقليدي؟ فكرت كثيرا في هذا الموضوع، فألفيت ألا مناص من البحث في الجذور الفلسفية التي تقوم عليها الحضارة الأمريكية، وأهم الأصول هو المبدأ الرأسمالي الذي من أشهر منظريه آدم سميث، وريكاردو، وإستيوارت مل، وهيوم، وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين، وأهم أسسه تأكيد الملكية الفردية للمصادر الطبيعية، واقتصار الحكومة على الرقابة وسن الأنظمة والقوانين، إضافة إلى المنافسة الشرسة في الأسواق لبيع السلع، ما ترتب عليه إيجاد الدعاية التجارية، والعروض، والتخفيضات، وأيام التصفية، وغيرها من أساليب جذب المستهلكين. كما أن من الملامح حرية الأسعار وفق مبدأ العرض والطلب.
وهناك مبدأ رئيس تقوم عليه الحضارة الأمريكية، ألا وهو النفعية، الذي يؤدي بالفرد أو الشركة أو الحكومة إلى تحقيق المكاسب والمنافع بشتى الطرق والأساليب بعيدا عن الأخلاق والقيم، وهذه من مساوئ النظام الرأسمالي؛ إذ يترتب عليه كثير من النزاعات والحروب بين الأفراد والدول، وما الميكافيلية إلا نتاج رحمها، ولعل تدخل أمريكا وبحجج واهية في كثير من مناطق العالم، ومنازعة الدول على خيراتها، خاصة في الوقت الراهن؛ حيث الركود الاقتصادي الذي تعانيه، لأكبر دليل على سقوط الموانع والحواجز عند من يأخذ بالبراجماتية، حتى أصبح الصلف، والغرور، والعنجهية سمات بارزة لسياسييها في تعاملهم مع الآخرين. والنفعية يترتب عليها الاحتكار للسلع، ومن أبرز الممارسات التحكم في المعروض من السلعة، كالقمح مثلا؛ للمحافظة على سعر معين يخدم المنتج، وهو ما تزاوله أمريكا، إضافة إلى تحكمها في أسعار النفط، ومواد أخرى مهمة، كالأدوية والأجهزة الطبية التي تنتجها.
ومن مبادئ الحضارة الأمريكية، الحرية الواسعة وغير المنضبطة، ما خلخل كثيرا من القيم الاجتماعية، وأضعف كيان الأسرة.
التحالف المسيحي - اليهودي يمثل أحد أهم مبادئ الحضارة الأمريكية، ووفق مصالح ومرتكزات هذا التحالف تُرسم سياسات أمريكا الخارجية، وتتحدد مواقفها حيال كثير من القضايا، وما سياساتها حيال قضايا منطقتنا، وتحديدا القضية الفلسطينية والثورة السورية، إلا أبرز الشواهد، حيث الدعم غير المحدود لإسرائيل مبني على معتقد أن عودة عيسى - عليه السلام - مرتبطة بقيام دولة اليهود. إن قدرتنا على فهم الآخر وطريقة تفكيره وسلوكه ومواجهاتهما، تمكننا من رسم الأسلوب الأكثر مناسبة في التعامل معه، بما يحفظ حقوقنا ومكاسبنا، ويضمن تفاعلنا الإيجابي على الصعيد العالمي. إن استقراء تاريخ أمريكا، يؤكد أنها لم تتغير في مبادئها التي تأسست عليها، ولا تزال مصالحها هي الأساس في علاقاتها الدولية، وفي نظامها التربوي الذي يؤسس الأجيال، ولم تتغير إلا الآليات؛ حيث تستخدم القوتين الخشنة والناعمة حسب الظروف، طالما تحققت المصلحة.

إنشرها