Author

التجارب مع صندوق النقد .. بين النجاح والفشل

|
حينما كنت أدرس في الولايات المتحدة كنت حريصا على القيام بزيارات ميدانية للمنظمات الدولية التي مقرها الرئيس في العاصمة واشنطن دي سي، وذلك من باب توسيع المدارك وتعزيز ثقافة المكان، وفعلا قمت بزيارة مقر هيئة الأمم المتحدة، ومكتبة الكونجرس، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، ثم قمت بزيارة تاريخية لصندوق النقد الدولي. ومن حسن حظي، كان ممثل المملكة في صندوق النقد الدولي في ذلك الوقت الاقتصادي السعودي الدولي الدكتور يوسف نعمة الله - رحمه الله - وكانت تربطني به علاقة مصاهرة ونسب، وحينما أنهيت إليه رغبتي في زيارة الصندوق، رحب بالزيارة ودعاني وأسرتي إلى تناول طعام الغداء معه في الصندوق. وكان يوما مشهودا، حيث وقفت على كيفية عمل الصندوق، وكيف يدار، وكيف يصنع قراراته، وكيف يضع برنامج الإصلاح الاقتصادي للدول، ومن هو صانع القرار الحقيقي وصاحب الكلمة العليا، وما محصلة تجارب دول العالم المختلفة معه؟ ومنذ أن شرفت بهذه الزيارة حتى اليوم وأنا أتابع باهتمام تجارب الصندوق مع الدول التي وقعت مع الصندوق على اتفاقيات الإصلاح الاقتصادي. ولقد لاحظت وأنا أتابع بشفافية تجارب الصندوق مع الدول المختلفة، أن بعض الدول أخذت قروض الصندوق كما يأخذ الإنسان الدواء المر، لكنها في النهاية تغلبت على أزماتها وتعافت من أمراضها الاقتصادية المؤلمة، لكن بعض الدول الأخرى تسبب برنامج الصندوق في تفاقم أزماتها الاقتصادية ودخلت في نفق المشكلات الاقتصادية المدمرة. أيضا دول أخرى رفضت البرنامج الذي قدمه الصندوق، ولجأت إلى حلول خارج الصندوق، وهي حلول محلية تراعي الوضع السياسي في البلاد! يجب أن نعترف بأن البرنامج الذي يضعه الصندوق غالبا ما تكون نتائجه مؤلمة وموجعة للطبقة الكادحة، وهي لذلك تضع الدولة في مواجهة لا تحمد عقباها مع هذه الطبقة التي تشكل الأغلبية العظمى في المجتمع، وبالذات في الدول التي تفتقر إلى مؤسسات تضبط الحد الأدنى من الاستقرار السياسي! وتعد المملكة من أولى الدول التي طلبت من الصندوق أن يعالج مؤشراتها الاقتصادية التي تعرضت لها في عام 1956، وكانت تجربة السعودية مع الصندوق تجربة ناجحة، حيث اهتمت الحكومة السعودية في ذلك الوقت بتنفيذ روشتة الإصلاح الاقتصادي التي تمثلت في تعويم الريـال والتحول من النظام النقدي الذهبي والفضي إلى النظام الورقي، واعتماد نظام الميزانية السنوية المتوازنة والعمل على تنويع مصادر الدخل. لكن الاختبار الحقيقي للصندوق بدأ منذ التسعينيات حينما ظهرت سلسلة من الأزمات الاقتصادية التي نجح الصندوق في حل بعضها وفشل في حل بعضها الآخر. ومن بين القصص الناجحة للصندوق، حل أزمة بولندا في عام 1990، وأزمة تنزانيا في عام 1995، وأزمة كوريا الجنوبية في عام 1997، وأزمة تركيا في عام 2000، وأزمة البرازيل في عام 2002، وأزمة أوروجواي في عام 2002. ولعل من أهم قصص النجاح التي يتفاخر بها الصندوق، قصة الاقتصاد البرازيلي، حيث قدم الصندوق للبرازيل في عام 1998 مساعدات مالية بقيمة 41 مليار دولار، وهو ما جنب العالم حالة من الكساد الاقتصادي المحتمل، حيث كانت دول أمريكا اللاتينية تتجه إلى تعويم عملتها المحلية بشكل عشوائي. وعلى الرغم من نجاح الصندوق في احتواء الأزمة الآسيوية التي اندلعت في عام 1997 في تايلاند وكوريا الجنوبية وإندونيسيا، فإنه فشل في ترويض باقي دول النمور الآسيوية التي رفضت مساعدة الصندوق وتولت هي مسؤولية وضع العلاج بعيدا عن برنامج الصندوق، وتعد ماليزيا في عهد مهاتير محمد هي المثل الأعلى للنجاح من أزمتها الاقتصادية بعيدا عن برنامج صندوق النقد الدولي، ويومذاك أظهرت الأرقام أنه بعد أن انكمش الاقتصاد الماليزي بنسبة 7.5 في المائة عام 1998 انتعش مرة أخرى في عام 1999 بنسبة 5.4 في المائة، وبعدت ماليزيا عن سياسة التقشف والركود التي كان سيفرضها الصندوق. وبعد حرب الخليج في عام 1999 تعرضت المملكة الأردنية الهاشمية لأزمة اقتصادية اضطرتها إلى الموافقة على سلسلة إصلاحات لمدة خمس سنوات تلقت خلالها ثلاثة قروض، وخرج الاقتصاد الأردني بنجاح من أزمة كادت أن تعصف بالدولة، لكن في عام 2018 تعرض الاقتصاد الأردني مرة أخرى لأزمة اقتصادية عاصفة، لكنه في هذه المرة رفض الشعب الأردني برنامج صندوق النقد الدولي، وإزاء ذلك تحركت الدول الشقيقة، وفي مقدمتها المملكة التي دعت إلى اجتماع عاجل في العاصمة المقدسة لدعم الاقتصاد الأردني، وأسفر الاجتماع عن منح الأردن ملياري دولار حتى يتمكن من الخروج من أزمته الاقتصادية التي كانت تتهدد استقرار البلاد. وفي عام 2016 وقعت مصر على برنامج صندوق النقد الدولي المتضمن تقديم مبلغ 12 مليار دولار للحكومة المصرية للخروج من الأزمة التي كانت تتهدد استقلال الدولة المصرية، ورغم الحنق الذي اجتاح الشارع المصري، إلا أن الحكومة المصرية استخدمت كل قوتها لتنفيذ برنامج صندوق النقد الدولي الذي بدأ بتعويم الجنيه المصري الذي أدى إلى ارتفاع الأسعار ومعاناة الشريحة الأكبر من المجتمع. وتبين المؤشرات الأولى، أن الاقتصاد المصري بدأ يتعافى من أزمته الاقتصادية، ويتوقع صندوق النقد الدولي أن الاقتصاد المصري يوشك أن يخرج من أزمته التي بدأت معه منذ ثورة 1952. مما تقدم، فإن صندوق النقد الدولي نجح في علاج بعض الأزمات الاقتصادية، لكنه أخفق في بعضها الآخر، لكن للحكومات دور مهم في نجاح أو إخفاق برنامج صندوق النقد الدولي!
إنشرها