default Author

انتعاش النمو .. وتحديات الاقتصاد العالمي «2 من 2»

|

الاقتصادات المتقـــدمة تقود الانتعاش، لكنها ستعود، بمجرد سد فجوات الناتج لديها، إلى معدلات النمو الأطول أجلا، التي لا نزال نتوقع أن تكون أدنى بكثير من معدلات ما قبل الأزمة. فبينما نتوقع أن يبلغ النمو في الاقتصادات المتقدمة 2.3 في المائة في 2018، يفيد تقييمنا للنمو الممكن في هذه المجموعة بأنه لن يتجاوز ثلثي هذا المعدل على المدى الأطول. ويشكل التغير الديموغرافي وانخفاض نمو الإنتاجية تحديين واضحين يدعوان إلى استثمارات كبيرة في الموارد البشرية والجهود البحثية. وتواجه البلدان المصدرة للوقود آفاقا غائمة إلى حد كبير، وعليها استكشاف السبل الممكنة لتنويع نشاطها الاقتصادي.
تشير التنبؤات إلى أن النمو يتجه إلى التباطؤ في أكبر اقتصادين وطنيين يدفعان النمو حاليا وفي المستقبل القريب. فالصين ستخفض التنشيط المالي الذي اعتمدته في العامين الأخيرين، كما أعلنت السلطات أنها تنوي كبح النمو الائتماني لتقوية نظامها المالي المثقل بالأعباء. وتمشيا مع هذه الخطط، يُتوقع انخفاض النمو المستقبلي مع استمرار الصين في جهودها الضرورية لاستعادة توازن الاقتصاد. أما في الولايات المتحدة، فأي تأثير يحدثه التخفيض الضريبي في الناتج في اقتصاد يكاد يصل إلى مستوى التشغيل الكامل سيأتي جانب منه على حساب انخفاض النمو لاحقا عندما ينتهي العمل بحوافز الإنفاق المؤقتة "خاصة للاستثمار"، ويظهر تأثير زيادة الدين الفيدرالي مع الوقت.
ومع أهمية الأوضاع المالية الميسرة والدعم المقدم من المالية العامة لتحقيق التعافي المنشود، فقد أدى ذلك إلى تكوين تركة من الديون ــ لدى الحكومة، وفي بعض الحالات لدى الشركات والأسر ــ في الاقتصادات المتقدمة والصاعدة على السواء. ولا تزال معدلات التضخم وأسعار الفائدة منخفضة حتى الآن، لكن حدوث ارتفاع مفاجئ عن المستويات الحالية، ربما بسبب تطورات السياسة المسايرة للتقلبات الدورية، من شأنه تشديد الأوضاع المالية عالميا وتحفيز الأسواق على إعادة تقييم مدى استدامة الدين في بعض الحالات. وستكون أسعار الأسهم المرتفعة معرضة للخطر أيضا، ما يزيد من مخاطر التعديلات السعرية المربكة.
ورغم تصاعد النمو في أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية، فهناك أخبار أقل إيجابية عن كل من الشرق الأوسط وإفريقيا جنوب الصحراء التي يشكل ضعف اقتصاداتها الكبرى عبئا معوقا للنمو فيها. وهناك حركة هجرة خارجية كبيرة تسبب فيها النمو المنخفض، الناشئ جزئيا عن الظواهر الجوية المعاكسة المصحوبة بصراعات أهلية في بعض الحالات. وهناك مظاهر تحسن بارزة في بعض اقتصادات أمريكا اللاتينية الكبرى، لكن استمرار الانهيار الاقتصادي في فنزويلا سيظل عبئا على النمو الكلي في المنطقة هذا العام.
ورغم ما حققه التعافي الاقتصادي من زيادة في توظيف العمالة وفي الدخل الكلي مقارنة بالمستويات المنخفضة التي شهدتها فترة الأزمة، فإن الناخبين في كثير من الاقتصادات المتقدمة بدأوا يشعرون بالاستياء من المؤسسات السياسية، ويشككون في قدرتها على تحقيق نمو واسع النطاق في سياق يتسم بضعف الزيادات في الأجور الحقيقية وانخفاض نصيب العمالة من الدخل القومي وتصاعد ظاهرة استقطاب الوظائف. لكن التحول إلى نماذج حوكمة استبدادية أو قومية متطرفة يمكن أن يتسبب في تعطيل الإصلاحات الهيكلية داخليا والانسحاب من مسار الاندماج الاقتصادي على المستوى الدولي. وكلا التطورين يمكن أن يضر بآفاق النمو على المدى الأطول، ما يلحق الضرر بالفئات التي تركت وراء الركب في العقود القليلة الماضية. وقد وصل عدم المساواة إلى مستويات مرتفعة في الأسواق الصاعدة والاقتصادات منخفضة الدخل، وهي ظاهرة تحمل بذور الاضطرابات في المستقبل ما لم تستطع البلدان تحقيق نمو أكثر، احتواء لمختلف شرائح السكان.
ولعل أكبر المخاطر الراهنة هي احتمال التراخي. فقد تبدو هذه الآونة لحظة مثالية في الاقتصاد العالمي، لكن صناع السياسات الحكماء عليهم النظر إلى أبعد من الأجل القصير.
ومهما كانت جاذبية الاسترخاء والاستمتاع بالشمس المشرقة، فإن بمقدور السياسة، بل ينبغي لها، أن تتحرك لتعزيز التعافي الراهن. هذا هو الوقت المناسب لبناء هوامش للمناورة من خلال السياسات، وتدعيم دفاعات الاقتصاد لمواجهة عدم الاستقرار المالي، والاستثمار في الإصلاحات الهيكلية والبنية التحتية المنتجة والموارد البشرية. فالركود القادم قد يكون أقرب مما نتصور، والذخيرة المتوافرة لمحاربته قلت كثيرا عما كانت عليه في العقد الماضي، ولا سيما بسبب الدين العام الذي ارتفع بشدة.
كذلك فإن انتعاشا بهذا الاتساع هو لحظة التحرك المثالية لمواجهة مجموعة من التحديات متعددة الأبعاد. ويشمل ذلك مواجهة المخاطر التي تهدد الاستقرار المالي العالمي، ومنها التهديدات الإلكترونية؛ وتعزيز النظام التجاري متعدد الأطراف؛ والتعاون في مجال السياسات الضريبية الدولية، بما في ذلك مكافحة غسل الأموال؛ وتشجيع النمو القابل للاستمرار في البلدان منخفضة الدخل. أما ما يشكل ضرورة ملحة للغاية فهو مكافحة الضرر البيئي الذي يتعذر تداركه فيما بعد، خاصة ضرر التغير المناخي.

إنشرها