Author

الأحساء والإرث الاقتصادي

|
بعد تعرفي على الآثاري السعودي الحاذق الدكتور عبدالله المصري، أدركت أن ما كنت أسمعه وأقرأه متناثرا هنا وهناك، أمر لا يبعد كثيرا عن حقيقة أن أوتاد التحضر ضاربة في الأحساء منذ آلاف السنين. فقد كان حديثه مذهلا عن أعمال تنقيب علمية ومنهجية أجريت في بعض قرى الأحساء، وقابلت بعد ذلك عديدا من الآثاريين المرموقين، ومن أبرزهم الدكتور عبدالرحمن الأنصاري، الذي جمعتني معه مقاعد "الشورى"، والدكتور سعد الراشد، والدكتورعلي المغنم الذي طال الحديث بيننا عن الجهود التي تبذلها الدولة لاستكشاف المكنوز الآثاري، وله مؤلفات أحدها عن جواثا "أو جواثى". تاريخيا، امتلكت الأحساء اقتصادا منوعا، فقد كانت ترسل تمورها ومحاصيلها الزراعية إلى المناطق المجاورة والبعيدة، وكانت أسواقها مقصدا للمتبضعين من سائر البلدان المحيطة، حيث تتوافر البضائع، ويتنافس عليها التجار بيعا وشراء. وبحكم انتشار الصناعات التقليدية منذ قرون، تجد تدرجا في الجودة: ففي دنيا الهدم والمشالح - مثلا - تجد تفاوتا من حيث النسيج والحياكة والتطريز اليدوي. وفي الزراعة، نظام الري اتسم ليس فقط بتجنب البخر وبالدقة في التوزيع، بل بتصريف وتدوير مياه الري أكثر من مرة، ومن هنا أتت مفردات مثل "طايح وطايح الطايح"، التي تعني ماء صرف المزارع، الذي كان يستخدم في ري المزروعات الأكثر تحملا لمستويات أعلى من ملوحة الماء، كما أن في ذلك تطبيق والتزام بمبدأ الاستدامة، من خلال: الاستخدام المتعدد والمتتابع والمقتصد للمورد النادر "الماء"، القائم على السعي الحثيث إلى تعظيم عائد "سلسلة القيمة" value chain، ما أوجد تنوعا في المحاصيل من تمور وفواكه وورقيات حتى الأرز. أما الكد والعمل فهو القيمة الاقتصادية الأهم للفرد، فالعيب ليس أن يعمل أجيرا، بل أن يتسكع عاطلا. وأما الإدارة، فسنامها ليس التضييق، بل تحفيز العامل، وهو مرتكز وضعه "تايلور" في إدارته العلمية قبل قرن من الزمن، لكنه كان يطبق هنا منذ قرون، حيث يتفق مالك النخل مع "شريك"، ليعتني الأخير بالنخل مقابل حصة من المحصول، وكان "الشريك" يدير بعقلية ودوافع المالك، بما يحسن العائد، ويحد من المصروفات. وهذه المفاهيم في التنافسية والارتقاء المستمر بالجودة، صنعت في الأحساء اقتصادا تقليديا لم يُشَق له غبار في منطقته. واليوم، نحتفي بضم الأحساء إلى قائمة الـ"يونيسكو" واحة للتراث العالمي، وهذا إنجاز ضخم يحسب للهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، مهم الالتفات لإرثها الاقتصادي، على مستوى النظرية والتطبيق، الذي لا يقل إشراقا وحذقا.
إنشرها