Author

وقفة مع المسلسلات

|

في كل موسم من مواسم رمضان، تتزاحم الفضائيات العربية بالمسلسلات ذات الطابع الترفيهي، كما يدعي القائمون عليها من ممثلين، ومخرجين، وقنوات عرض، ومع كثرة المعروض منها يخيل إلى المراقب أن الترفيه كحاجة من حاجات الناس محصور في رمضان، وليس حاجة على مدى العام، أو يستحيل عرضها في الشهور الأخرى. وفي كل عام، يتم تناول الموضوع من قبل الكتاب، وكثير من أبناء المجتمع، بين مؤيد ومعارض، ليس للمحتوى فقط، بل التوقيت أيضا، ألا هو وقت الذروة على الإفطار الذي تجتمع فيه العائلة، بأفرادها كافة.
بمشاهدة بعض المقاطع من بعض المسلسلات، لاحظت أن غالب القصص التي يدور حولها المسلسل ممارسة لا تصل إلى حد الظاهرة، بل هي محدودة في فئة ضيقة، إن لم تكن ممارسة فردية بحتة، كخيانة الجار جاره، أو الارتباط ببنت الجيران، أو مشهد اللقيط الذي وضع أمام بيت الإمام في مسلسل العاصوف. هذه القضايا، وغيرها، حين تكون أساسا لحبكة درامية تدور حولها حلقات المسلسل بأدوار، وفي أماكن، وألبسة، ومفردات، وطريقة حديث، وتصرف، تعود إلى ماضي المجتمع، تُشعِر المشاهد من خارج المجتمع بأن حياة المجتمع مختلفة عما هي عليه الآن، إذ كان المجتمع فاسدا متجردا من الأخلاق، لا مكان للعيب فيه، والقيم، والمبادئ، أما في الوقت الراهن، فخصائص المجتمع التزمت والتشدد والغلو، حسبما تصوره بعض المسلسلات.
المشكلة في هذه المسلسلات، فرضية كونها ترفيهية مع هذه المقاطع، وكأن الترفيه لا يتحقق إلا بلقطات شاذة لا يمكن إنكار وجودها في المجتمع، مثله مثل أي مجتمع آخر، كما لا يمكن إنكار وجود فئة تعشق، وتستمتع بمشاهدة هذه المقاطع، إلا أن ما يغفل عنه في هذا السياق، التعميم الذي يصل حد وصم المجتمع بكامله بأنه كان على هذه الشاكلة، لكن لأسباب ما تغير إلى النقيض مع إسقاط هذه الأسباب، والإيحاء بها من خلال شخوص، ولقطات أخرى يتم عرضها في المسلسل، وكأن الرسالة التي يراد تثبيتها في ذهن المشاهد، أن المجتمع منقسم إلى فئتين متساويتين في العدد، مختلفتين في طريقة التفكير، إحداهما منفتحة متطورة تعشق الترفيه بغض النظر عن طبيعته، ومناسبته قيم المجتمع، وأخرى منغلقة تقليدية التفكير تحارب الترفيه والحياة المعاصرة.
لا أحد يعارض الترفيه ما دام التزم بثوابت المجتمع التي تأسس عليها، وأسهم في بناء القيم التي تقوي بناء المجتمع، وتماسكه، وهذا ما لا يتحقق في المسلسلات التي أنفق عليها كثير، وحظيت بالدعاية الأوسع، والأقوى، وأعطيت الأوقات الأكثر مشاهدة. حاولت أن أخرج بنتجية ذات معنى وفائدة من الحلقات التي شاهدتها في بناء الشخصية، أو تقويم السلوك، بما يعزز المحافظة على المكتسبات، والحرص على النظام، لكني فشلت، إذ لم أجد إلا حركات صبيانية عبثية، وممارسات شاذة، كمعاقرة العرب الخمر، وقضاء الوقت في الغناء، وتتبع النساء.
كأني بهذه المسلسلات أخذت من التاريخ العربي شخصية أبي نواس في خمرياته، أو عمر بن أبي ربيعة في غزلياته، أو إبراهيم الموصلي في طربه، وعممت هذه الشخوص وسلوكياتها على المجتمع في مراحل التاريخ كافة، وهذا بلا شك إجحاف وتشويه لتاريخ أمة ظهر فيها كرماء، حتى قبل ظهور الإسلام كحاتم الطائي، ومحارب شجاع كعنترة بن شداد. أما في تاريخنا القريب، فالناس مثابرون، مكافحون، يسعون إلى كسب عيشهم في مزارعهم، أو دكاكينهم، يبيعون ويشترون، أو في حوانيتهم يمارسون صناعاتهم، في حين أن طائفة أخرى يسافرون خارج الوطن بحثا عن العيش الكريم عملا في مهن شاقة وخطرة، كالغوص والبناء وغيرهما، حتى نسجت أمثال شعبية تؤرخ ظروف العصر، مثل "الهند هندك إذا قل ما عندك"، و"الشام شامك إذا الدهر ضامك"، فهل يستحق المجتمع تصويره بما غلب على مشاهد المسلسلات.
بناء الشخصيات العصامية، المثابرة، المحبة للعمل، الطموحة، المحبة للإنجاز والإنتاج، لا يمكن أن يتحقق بعرض شخصيات ليس لهم هم إلا البحث عن المتعة في أرخص صورها، وليس للوقت قيمة في قاموسهم، ولا يحسنون إلا الضرب على الطبل، والإمساك بالسيجارة، والجلوس خلف الشيشة برفقة الشلة، مع تنهدات تعكس ملامح صاحبها، الصياعة، والعبث، والضياع. هل من الممكن أن ننتج مسلسلات ترفيهية ذات قيمة في بناء العقول والشخصيات؟ الجواب عندي، "نعم" متى ما توافر لدينا مشروع حضاري تنتظم حوله رغبة وهمة وتخطيط ودعم أطراف هذه الصناعة من كتاب ومخرجين وممثلين، وراعين ومنتجين، ومتى ما أدركنا أن لنا تاريخا مليئا بالنفائس، وكما قال نزار قباني:
وأين أسيافنا والجيش عنترة
وأين حاتمنا هل كلهم راحوا

إنشرها