Author

تراجع نمو الإنتاجية عالميا

|
تعرف الإنتاجية بأنها العلاقة بين كميات الإنتاج وكميات المدخلات خلال مدة زمنية محددة. ويعبر عن الإنتاجية في الاقتصادات الوطنية عادة على أنها معدل الناتج المحلي للعامل الواحد في الساعة. ويمكن التعرف من خلالها على كفاءة استخدام عوامل الإنتاج الكلية والجزئية من رأسمال وعمالة وأخرى. يأتي نمو الإنتاجية كأحد أهم عوامل النمو الاقتصادي عبر التاريخ، حيث يعود جزء كبير من النمو الاقتصادي عبر العالم إن لم يكن معظمه إلى نمو الإنتاجية. تساعد الإنتاجية في تقييم التأثيرات الاقتصادية للأنظمة والتشريعات والسياسات. إضافة إلى ذلك تساعد الإنتاجية في قياس القدرات والسعة الإنتاجية، وفي استشراف دورات الأعمال الاقتصادية، وتقدير الطلب الكلي والتضخم. شهدت الإنتاجية نموا قويا مع التطور التقني وانتشار التعليم منذ الثورة الصناعية، وكانت مسؤولة عن معظم النمو الاقتصادي الذي شهده العالم في القرنين الماضيين والقرن الحالي. استمر نمو الإنتاجية الجيد في الدول المتقدمة حتى سنوات قليلة ماضية، لكن الفترة الأخيرة - تحديدا منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008 - شهدت تراجعا قويا في معدلات نمو الإنتاجية، خصوصا في الدول المتقدمة. فقد تراجع معدل نمو الإنتاجية السنوي في الولايات المتحدة إلى نحو نصف نقطة مئوية خلال الفترة 2011 - 2016، بعدما كان المعدل يزيد على 3 في المائة في العقدين السابقين لهذه الفترة. ولم يقتصر التراجع على الولايات المتحدة، حيث تراجع معدل نمو الإنتاجية في دول عديدة أيضا، فقد انخفض في اليابان مما يزيد على 4 في المائة قبل عام 1980 إلى أقل من نقطة مئوية واحدة خلال الأعوام الأخيرة. كما شهد معدل نمو الإنتاجية تراجعا في باقي الدول المتقدمة، كألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإنجلترا. أما الدول الصاعدة والنامية - التي تنخفض الثقة في إحصاءات عديد من دولها - فقد شهدت بعضها زيادة محدودة في معدلات نمو الإنتاجية في السنوات الأخيرة، لكن دول أخرى، كالصين، عانت من بعض التراجع. يثير حيرة كثير من المختصين تراجع معدلات نمو الإنتاجية، على الرغم من الإنجازات والقفزات التقنية خلال السنوات الماضية، وعلى الرغم أيضا من زيادة وتوسع التعليم، وانتشار سلاسل إنتاج وأنشطة الشركات عبر العالم. يرجح بعضهم تراجع الإنتاجية إلى استنفاد التطورات التقنية والمهارات الإدارية لفعاليتها في زيادة الإنتاج وقصورها في إحداث ارتفاع معتبر في معدلات الإنتاجية. بينما يرجح آخرون أن تراجع الاستثمارات الرأسمالية منذ الأزمة المالية العالمية، قلل من انتشار واستخدام التطورات التقنية. وتتعدد النظريات حول الأسباب التي تقف خلف تراجع معدلات نمو الإنتاجية، حيث يرى بعضهم أنه جاء نتيجة لخلل الإحصاءات حول الإنتاجية. وتعاني بعض الإحصاءات ذات العلاقة، كإحصاءات ساعات العمل، من ثغرات في كثير من دول العالم، يضاف إلى ذلك صعوبة قياس تغيرات إنتاج الخدمات، خصوصا الحديث منها، بينما كان من السهل قياس الإنتاجية في السلع. فالخدمات المصرفية شهدت - مثلا - كثيرا من التحولات، حيث باستطاعة العملاء حاليا إنجاز عديد من المهام التي كان يقوم بها العاملون في المصارف سابقا، وهذه الخدمات في الوقت الحالي لا تدخل في حسابات الإنتاج. يرجح آخرون أن السياسات النقدية المرنة، وكذلك الأنظمة التي تدعم بقاء الشركات والصناعات الضعيفة، أسهمت في إطالة أعمار كثير من الشركات متدنية الإنتاجية، ما خفض معدلات نمو الإنتاجية. ويعزز وقوف هذا السبب خلف تراجع الإنتاجية، ازدياد فجوات الدخل بين الشرائح السكانية في السنوات الأخيرة، حيث تعتمد معظم الأسر على الأجور كمورد للدخل. قد تقف أسباب أخرى خلف تراجع نمو الإنتاجية، التي منها التسليم بقدرة التطورات التقنية على زيادة الإنتاجية، حيث يمكن إساءة استخدام التطورات التقنية والتسبب في إحداث آثار سلبية على الإنتاجية، فانشغال بعض العمالة بشبكات التواصل الاجتماعي أو بالأجهزة الحديثة في أوقات العمل أو خارجها، قد يولد آثارا سلبية على الإنتاجية وعلى اكتساب مهارات العمل والتعلم في أوقات العمل وخارجها. كما أن زيادة وانتشار التعليم لا يعكس، بالضرورة، نوعية التعلم والمتعلمين، فقد شهدت عديد من البلدان تراجعا في الإنفاق العام وترديا في أوضاع التعليم. قد تكون السياسات الاقتصادية أيضا من أهم الأسباب التي تقف خلف تراجع معدلات نمو الإنتاجية، فهناك خفض واضح في الإنفاق الحكومي على تطوير البنية الأساسية وعلى الخدمات العامة، كالتعليم والتدريب والصحة، التي يعتقد أنها كانت تسهم في نمو الإنتاجية، في الجانب الآخر، ارتفع الإنفاق الحكومي في قطاعات التمويل وسداد الديون وإنقاذ القطاعات المالية، التي لم تسهم كثيرا في نمو الإنتاجية. وأخيرا، لا يمكن التغاضي عن إمكانية تسبب تراجع معدلات نمو الطلب الكلي خلال السنوات القليلة الماضية في خفض معدلات الإنتاجية، حيث تعمل الإنتاجية في جهة الإنتاج أو العرض، وما لم يقابلها نمو الطلب الكلي، فلن يرتفع العرض الكلي، ما سيخفض معدل نمو الإنتاجية. إن تراجع معدلات نمو الإنتاجية خلال السنوات الأخيرة على النطاق العالمي، يرفع أهمية دراسة تأثيرات السياسات الاقتصادية والأنظمة والتشريعات المستحدثة بعد الأزمة المالية العالمية على النمو الاقتصادي، وإصلاح ما يمكن إصلاحه للنهوض بالنمو مرة أخرى.
إنشرها