Author

الثقافة الوطنية .. التاريخ والرؤية

|
كل اجتماع بشري ينتج ثقافته الخاصة به، يصدق هذا على المكونات الصغيرة وعلى الدول أيضا، والمملكة العربية السعودية تكتظ أرضها بالموروث الحضاري والثقافي على مستوى الآثار وتنوع الإنتاج الشفهي أو المكتوب، وهي بهذه الخصائص ضاربة الجذور فيها منذ سحيق التاريخ، الذي ترك في مختلف بيئاتها ومناطقها بصمات الإنسان وإبداعاته. وقد شهدت المملكة عبر تاريخها الحديث ولادات ثقافية بمختلف الفنون، تعبر عن ذائقتها ورأيها في أشكال النشاط الاجتماعي والفكري والفني، ترك جيل الرواد إنجازاتهم، وأعقبهم أجيال القنطرة، وتوالى بعدهم أجيال الحداثة والمعاصرة، فأنتج الجميع ما يمثل انعكاسات معايشتهم لفتراتهم، وما أحاط بها من تحولات ومتغيرات وتطور، فضلا عن أن الدولة سعت إلى خدمة الحياة الثقافية لمنظومة من الهياكل الثقافية والفنية كالأندية الأدبية وجمعيات الثقافة وغيرها. إن كان هذا قد أسفر عن تراكم نوعي وكمي لمختلف الفنون والحراك الثقافي والفكري والفني، فهو كان كذلك على الدوام، ينادي بأن يكون لكل ذلك مظلة مؤسسية واحدة ترعاه وتهتم بشؤونه، فقد كانت مصادر إنتاج الثقافة متعددة بين القطاع الخاص من دور النشر والمطابع والمكتبات، فضلا عن الأفراد أنفسهم، كما كان موزعا في مصادره بين قطاعات حكومية، منها وزارة الثقافة والإعلام، ووزارة التربية والتعليم، بل تقريبا جميع الجهات الحكومية؛ إذ لا تكاد واحدة منها إلا وتسهم بإنتاج ثقافي، إما خاصا بنشاطها، أو له علاقة تشتبك مع الثقافة العامة بشكل من الأشكال، وحين تم إنشاء وزارة الثقافة والإعلام كان واضحا أن غاية الدولة هو إيجاد هيكلية تنضوي تحتها جميع الأنشطة والفعاليات والنتاجات الفكرية والفنية، غير أن التجربة أثبتت أنه كثيرا مما حدث تعارض وتباين أيضا بين ما يريده المثقفون وما يريده الإعلام، وبات واضحا أن جمعهما معا يشكل عائقا، دون اندفاع الثقافة في الاتجاهات التي تخصها لحساب الإعلام بمنطقه الذي تفرضه عليه متغيرات الظروف الداخلية والاجتماعية. وقد جاء إنشاء وزارة الثقافة ليمثل وعيا لهذه الإشكالية، ودفعا للمنظور الثقافي وما يختص به من أهداف تختلف بالضرورة عن الإعلام، وإن كان الإعلام بذاته جزءا من محيط الثقافة الواسع العميق. أمام وزارة الثقافة اليوم تحديات تداعت عن أسلوب التعاطي مع الشأن الثقافي والحياة الثقافية وممثليها من مثقفين ومفكرين وأدباء وفنانين، وهو شأن أدركته "رؤية المملكة 2030" في أطروحتها وأسسها الاستراتيجية، التي وضعت في جوهر اهتماماتها الارتقاء بالمحتوى المعرفي والبيئة الثقافية في المملكة، بما يمكنها من التفاعل والتنافس مع الثقافات في المجتمعات الأخرى المتقدمة، لكي تكون - من ناحية - طاقة تضخ الفعالية والعملية والجودة والإبداع والكفاءة في المنتج؛ أي أن الرؤية في مضمونها بما يخص المجال التنموي تعلق على الثقافة دورا نوعيا في السلوك وفي الوعي، وهذا الدور هو "التغيير الجذري لثقافة العمل"؛ لأن أي ثقافة لا تستطيع شحن إنسانها بمسؤولية الالتزام بأخلاقيات العمل، وبتطلعات الإنسان للابتكار والإبداع والإنتاج بإخلاص، لن تكون سوى نوع من الثقافة الهشة الهامشية، التي تهدر الوقت ومعها الإنسان، وإهدار الاثنين معا هو إهدار للوطن نفسه، الأمر الذي لم ترتضِ "رؤية 2030" أن يكون له شبح في الوجود بيننا بأي شكل من الأشكال. من المؤكد أن وزارة الثقافة لن تمثل «القوة الخارقة» في الانتقال بالحياة الثقافية من وضعها الراهن بكل إشكالياته وسلبياته وإيجابياته إلى مستوى متخيل، غير قابل لأن يكون في مدة وجيزة، فصناعة الثقافة - في الأساس - صناعة خاصة، مصدرها ومستهلكها في الوقت نفسه هو الإنسان ذاته، ولن تفلح أي مؤسسة في أن تجعل من ليس له رغبة في الثقافة ولا اهتمام بالفكر والفن مبدعا خلاقا على حين غرة، هذه حقيقة صريحة؛ تعني أن المسؤولية بالإحساس تقع على المثقف مفكرا كان أو أديبا أو فنانا أو باحثا أو عالما، فبقدر ما ينخرط في إتقان منتجه بقدر ما تصبح للثقافة سماتها المميزة والجاذبة القادرة على التأثير، على أن ذلك سيصبح أيسر وأسرع تحققا حين يجد المثقفون أمامهم وزارة تستجيب لتطلعاتهم وطموحهم، سواء في منتجهم الخاص، أو في منظومة القوانين والتشريعات التي تحمي حقوقهم، وتذلل العقبات في الإجازة والنشر والتوزيع، أو في إنشاء صندوق للتنمية الثقافية يدعم الصناعات الثقافية، ويؤسس لجوائز أدبية وفنية وعلمية، ويتولى رعاية من تستدعي الحاجة إلى العناية بهم من المبدعين وتكريمهم، وتطوير علاقات التبادل الثقافي مع الخارج، وتبني المشاريع الثقافية، والعمل على إنشاء قاعدة بيانات ثقافية وآلية لإدارة المحتوى الثقافي الوطني، ودعم المؤلف والباحث السعودي ماديا ومعنويا، فضلا عما ينادون به من مسارح وسينما ونوادٍ للأدب والفنون التشكيلية والجميلة والشعبية، إلى جانب الروافد الأخرى من متاحف وجمعيات ومعارض كتب ومعارض فنية، وقبلها ومعها أكاديميات للفنون المسرحية والإخراجية والتنفيذية والنقد الفني وغيرها، ما تتطلبه مقتضيات وجود حياة ثقافية حضارية نابضة، تأخذ بمجتمعها إلى حيث ما تستهدفه "رؤية المملكة"، وإلى رحاب أبعد، مهدت وتمهد لها هذه "الرؤية"، لكي تجعل من ثقافتنا الوطنية صوتا نخبويا مشعا شامخا، تحتفي به عقول وأذواق العالم المتقدم، مثلما تحتفي به أذواق وعقول أبنائه وتفخر به.
إنشرها