Author

المنطق الحائر بين عقول مختلفة

|

تولى جوردون براون Gordon Brown رئاسة وزراء بريطانيا خلال الفترة من 2007 حتى 2010. وفي السنة الأخيرة من سنوات حكمه، ألقى محاضرة حول "الأخلاقيات العالمية"، ركز فيها على مسألة أن العالم في العصر الرقمي كيان واحد، وأن الأمم فيه باتت تعتمد بشكل أكبر بعضها على بعض، وأنه لا يمكن لأي أمة أن تكون مستقلة تماما عن الأمم الأخرى. وأبرز المحاضر، عبر بعض الأمثلة، جانب الروح الإنسانية المشتركة والتعاطف العالمي من الناس في مختلف مناطق العالم، مع أولئك الذين يعيشون أزمات في بعض مناطقه، وذلك بسبب ما تنشره وسائل الإعلام عن أخبار تلك الأزمات. وفي الختام، دعا المحاضر إلى أخلاقيات عالمية تتساوى فيها الأمم، ويتساوى فيها الجميع، ويتحمل فيها الأقوى مسؤولية مساعدة الأضعف، حرصا على عالم متوافق، يعمه السلام، ويتمتع بنمو متجانس يحظى به الجميع.
بعد هذه المحاضرة، واجه المحاضر سؤالا مهما يختبر ما قام بعرضه في محاضرته. يقول السؤال ما يلي: إذا كنت في مكان ما من العالم وعلمت للتو أن هناك إعصارا قادما في الأفق، وأمامك منزلان تستطيع تحذير أحدهما من هذا الإعصار قبل وقوعه كي ينجو أصحابه، فأي المنزلين تحذر؟ علما بأن المنزل الأول يقطنه "رجل بريطاني واحد"، والمنزل الآخر تقطنه أسرة إندونيسية مكونة من "خمسة أشخاص". كانت غاية السؤال - بالطبع - هي إحراج المحاضر. فإذا قال إنه سيحذر منزل البريطاني، فإن ذلك يجهض دعوته إلى "الأخلاق العالمية"، لأنه يفضل شخصا واحدا على أسرة من خمسة أشخاص. وإذا قال إنه سيحذر منزل الأسرة الإندونيسية، فإنه بذلك يتخلى عن انتمائه الوطني ودوره كرئيس لوزراء بريطانيا مهمته حماية أبناء وطنه.
بوصفه سياسيا محنكا تهرَّب المحاضر من الإجابة المباشرة، واختار أن يتحدث عن التعاون العالمي، وأن مثل هذا التعاون يمكن أن يحد من كثير من الكوارث الطبيعية عبر مساعدات فنية ومعلوماتية ومادية يمكن أن تقدمها الدول الأقوى إلى الدول الأضعف. على أي حال، تُبيِّن هذه القصة أن التفكير المنطقي، في شؤون الحياة، لا يقود بالضرورة إلى نتيجة واحدة، بل إلى نتائج مختلفة. صحيح أن المنطق، في الحالة المطروحة، يقضي إنسانيا بضرورة تحذير مَن يمكن إنقاذه، لكن اختيار هدف الإنقاذ يبقى تابعا لتوجه صاحب العلاقة. وهنا تبرز حيرة المنطق في قضية إنسانية، حيث يأتي الحسم فيها ليس من المنطق ذاته، إنما من "توجه" صاحب الاختيار الذي يقود هذا المنطق.
ولا تعتمد "حيرة المنطق" على "توجه" صاحب العلاقة فقط، بل ترتبط أيضا بأمور أخرى. ولعلنا في تفسير هذا الأمر نطرح ثلاث حالات رئيسة عامة يمكن أن تصيب المنطق بالحيرة. في الحالة الأولى، قد تحمل المعلومات المتاحة، في قضية مطروحة، حقائق موثوقة، لكن غير كافية لتغطية جميع جوانب مشهد القضية. في مثل هذه الحالة، يجد المنطق نفسه محرجا، لأنه لا يستطيع الوصول إلى نتائج مقنعة تحمل مبررات كافية. ومثل هذه الحالة أمر شائع في مختلف قضايا الحياة، لذا، فإن على كل مَن يتصدى للتعامل مع قضية محددة أن يعمل على جمع أكبر قدر من المعلومات التي تحمل حقائق سليمة بشأنها.
وننتقل إلى الحالة الثانية، حيث تتوافر من أجل القضية المطروحة معلومات كثيرة تغطي جميع جوانبها، لكن الحقائق التي تقدمها هذه المعلومات غير موثوقة، لأن بعضها قد يكون "مختلقا" ولا أصل له، أو يكون "مشوها" يتمتع بأصل، ولكن بتفاصيل غير صحيحة. فإذا سلم صاحب المنطق بسلامة المعلومات المتاحة، فإن منطقه سيكون غير قادر على تنفيذ نتائج مرضية، لأن المبني على مُختلَق أو مُشَوَّه لن يكون سليما. وتأتي الحالة الثالثة لتجمع بين الحالتين السابقتين، أي عدم كفاية المعلومات المتاحة، وعدم موثوقيتها، وبذلك يكون "المنطق" في هذه الحالة أكثر حيرة من حيرته في الحالتين السابقتين.
يتعرض "المنطق" السليم، على أساس ما سبق، "للحيرة" في العقول المختلفة نتيجة ثلاثة عوامل رئيسة. أول هذه العوامل، هو "توجُّه صاحب المنطق في القضية المطروحة"، وهو توجُّه كثيرا ما يكون قابلا للتغير تبعا لتغير الأهداف والمصالح. أما العامل الثاني، فهو عامل عدم توافر المعلومات التي تتيح ما يكفي من الحقائق المطلوبة. وثالث هذه العوامل، هو عدم الثقة بالمعلومات المتاحة، واحتمال كون الحقائق التي تقدمها مختلقة أو مشوهة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ما تقدم يرتبط بتوخي "المنطق السليم"، فما بالك إذا كانت محاكمة الأمور خارج إطار هذا المنطق.
ويختلف "أثر" نتائج المنطق السليم باختلاف أهمية القضية المطروحة. وعلى ذلك، لا بد في القضايا المهمة من العمل على "تحديد التوجه" المطلوب، ومن جمع "المعلومات المتاحة" كافة، مع التأكد من "صحة هذه المعلومات وسلامتها". في هذا المجال، تقول "نظرية المعرفة" Epistemology إنه يمكن التأكد من صحة المعلومات المتاحة عبر الإثبات الذي يستند إلى التجربة، أو عبر الإثبات الذي يستند إلى المحاكمة الذهنية، أو ربما عبر الاثنين معا. ولدينا اليوم "علم البيانات الضخمة" Big Data، الذي يستطيع الإسهام بشكل فاعل في استنباط المفيد من المعلومات الكثيرة المطروحة عبر الإنترنت على نطاق واسع.
علينا، انطلاقا مما سبق، ألا نتوقع أن تطبيق المنطق السليم من قبل الجميع، في أي قضية من قضايا الحياة، يوحد مواقف الناس، لأن هناك "توجها"، لكل مَن يطبق هذا المنطق، يتحكم في نتائجه، ناهيك أيضا عن أثر مسألة المعلومات وسلامة الحقائق المطروحة. وهناك ثلاث فوائد رئيسة في إدراك هذا الأمر. أولى هذه الفوائد "ذاتية"، وتهتم بضرورة تحديد التوجهات الذاتية، والتأكد من تكامل المعلومات وسلامتها في كل قضية نتصدى لها. أما الفائدة الثانية "فغيرية"، بمعنى السعي إلى فهم توجهات الآخرين، وما يستندون إليه من معلومات قد تكون سليمة أو خاطئة. وتأتي الفائدة الثالثة لتكون "تعاونية"، حين يكون أطراف قضية من القضايا جاهزين للتعاون بشأنها عبر "الشراكة في المعلومات" المتاحة من جهة، و"التفاهم على التوجهات" بما يحقق مصلحة الجميع، من جهة أخرى.

إنشرها