Author

كيسنجر: كيف ينتهي عصر التنوير؟ «2»

|
مستشار اقتصادي

تدريجيا، وخلال عدة سنوات، سيكون كثير من النشاطات البشرية تحكم وتدار بواسطة لوغاريتمات معتمدة على ما يمكن تجميعه وتحليله من التجارب البشرية دون شرح للوقائع والحقائق التي أنتجتها. هناك تناقض، فكلما أصبح العالم أكثر شفافية، ازداد غموضا. ستكون هناك فوائد كبيرة للذكاء الاصطناعي في المجال الطبي، والحفاظ على البيئة والأمن المعلوماتي ومجالات أخرى كثيرة، ولكن لأن الذكاء الاصطناعي سيقوم بالحكم والقرار على مستقبل مجهول، فستزيد الضبابية وعدم اليقين. هناك ثلاثة فضاءات جديرة بالاهتمام:
الأول، أن الذكاء الاصطناعي قد تنتج عنه نتائج غير مستهدفة، إذ - كما يذكرنا الخيال العلمي - إن هذه الآلات يمكن أن تهاجم صانعيها، والأكثر احتمالا أن هذه الآلات ستسيء فهم التعليمات بسبب عدم وعيها بالسياق.
الثاني، حتى لو قامت بما هو مطلوب منها، فإنها ستغير عملية التفكير والقيم الإنسانية. حين تغلب الحاسب على الإنسان في GO، قام بخطوات لم تخطر على بال الإنسان، ولم يستطع أن يتعلمها حتى الآن. يا ترى، هل هذه التحركات أكثر من طاقة العقل البشري؟ أم هل الإنسان يستطيع تعلمها ويتبع المعلم الجديد؟
الثالث، أنه قد يقوم بالأهداف المطلوبة منه، ولكنه غير قادر على شرح منطق النتائج. وفي القريب، هل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يتخطى إمكانات اللغة والمنطق البشري على فهم ما يقوم به؟ على مدى التاريخ، استطاعت الحضارات إيجاد أساليب ومنظومة فكرية لشرح العالم من حولهم، ففي العصور الوسطى كان الدين، وفي عصر التنوير كان المنطق، وفي القرن التاسع عشر كان التاريخ، وفي القرن العشرين كانت الآيديولوجية. والسؤال الذي سيواجهنا عندما ندخل هذا العصر هو: ماذا سيحدث للوعي البشري إذا أصبح الذكاء الاصطناعي أكثر قدرة من المجتمعات على فهم العالم الذي يعيشون فيه بطريقة هادفة؟
من ظواهر العصر أن الموضوعات الفلسفية والفكرية تركت للتقنيين، وهؤلاء يطمحون إلى التقدم والاحتفال بإنجازاتهم، منشغلين بالنواحي التجارية على مستوى كبير، وبالتالي، حوافزهم في الاستمرار بالدفع نحو الممكن، علميا وتقنيا، بغض النظر عن محاولة فهم النتائج والاستحقاقات، فعصر التنوير بدأ باختراقات في الفلسفة، انتشرت بالتقنية الجديدة، بينما حقبتنا يبدو أنها تأخذ في اتجاه معاكس، فهي تأتي بتقنية مسيطرة تبحث عن شرح وتأطير فلسفي.
لم يقدم كيسنجر في المقال رؤية محددة أو قاعدة فلسفية أو فكرية جديدة، لكنه اكتفى بالتحذير والحاجة إلى التروي والدراسة. كثير من الدول المؤثرة، علميا وتقنيا، أخذت بالذكاء الاصطناعي مشروعا وطنيا، ومنها أمريكا، ولكن أمريكا لم تبحث في مدى التأثيرات والنتائج المتوقعة، أو حتى تفهم طريقة التعلم أو المتابعة. الأحرى أن تعطى مسألة التأطير الفلسفي والفكري والأخلاقي أهمية قصوى، تنتهي بطلب المختصين في الذكاء الاصطناعي أن يسألوا أنفسهم هذه الأسئلة الملحة قبل فوات الأوان.

إنشرها