default Author

إصلاح أخطاء النموذج الاقتصادي السائد «2 من 2»

|
من غير المستغرب أن يشعر الناس بالقلق إزاء عدم استقرار آفاق سوق العمل؛ نظرا لأن الحصول على عمل كريم هو أحد مقومات الازدهار الإنساني ـــ فالعمل مصدر أساس للكرامة والعزم والمساهمة المجتمعية، وأن يتخذوا ردود أفعال سلبية تجاه الغش والتمييز غير العادل في الاقتصاد العالمي. ووفقا للتقليد الأرسطي، يقصد بالمصلحة العامة: المصلحة الناتجة عن تجربة اجتماعية مشتركة، تعلو على المصلحة الفردية، ولا تستبعد أحدا، ولا تساوي مجموع المصالح الفردية. ويعكس ذلك فكرة أن رفاهية الإنسان لا تتحقق إلا بتحقق رفاهية الآخرين. وعلى الصعيد السياسي، تنعكس هذه الفكرة في المؤسسات التي تعمل من أجل رفاهية الجميع، بما في ذلك الأجيال المستقبلية. نحن في حاجة إلى الالتزام بالمصلحة العامة بوصفها قيدا أخلاقيا على الاقتصاد السوقي. وتتعارض فكرة المصلحة العامة تلك مع النماذج الأخلاقية التي نشأت عن حركة التنوير، التي تؤكد استقلالية الفرد في سعيه وراء مفهومه الذاتي للمصلحة. وقد نتجت عن هذا النهج تطورات كبيرة على الجانب الأخلاقي، ولا سيما من خلال تركيزه على الحقوق الإنسانية العالمية، ولكن التخلي عن مفهوم المصلحة العامة من المنظور الموضوعي يؤدي إلى نتيجة سلبية، فقد أصبح من السهل للغاية اختزال جميع القيم إلى تفضيلات ذاتية. وقد وقع الاقتصاد الكلاسيكي الحديث فريسة لهذه الإغراءات. ففي ظل عدم وجود أي أهداف مشتركة ومتبادلة، تختزل أهداف الحياة الاقتصادية لتقتصر على تحقيق المكاسب المادية والمالية. ويتوقع من الوحدات الاقتصادية احترام القوانين وحقوق الملكية بدلا من المعايير الأخلاقية، والاسترشاد بالمحفزات المالية وليس بالفضيلة. وهنا نصل إلى نقطة يحتجب عندها مجال الرؤية الأخلاقية. وهذه العقلية بالتحديد هي التي تدفع نحو حالة جسيمة من عدم المساواة وعدم الاستقرار المالي والأزمة البيئية. وكما يشير سن، يمكن أن يكون الاقتصاد انعكاسا لمفهوم كفاءة باريتو؛ أي أن تحقق عمليات التبادل التجاري داخل الأسواق أقصى درجات الرضا لجميع التفضيلات، بينما تظل "مقززة للغاية". وإذا تعمقنا في هذا الصدد، نجد شواهد على أن تلقين قيم الإنسان الاقتصادي المجردة يدفع الناس إلى قمع مشاعر التعاطف والتضامن وإعلاء الأنانية والانتهازية. وكما يشير صامويل بولز الاقتصادي الأمريكي، فإن الاعتماد المفرط على الحوافز المالية يمكن أن يقوض مفهوم الفضيلة، على الرغم من أنه ثمة إدراك متزايد أن الأسواق والمؤسسات الكبرى لن يمكنها العمل بكفاءة دون درجة من درجات الالتزام بالفضائل كالعدالة والصدق والثقة. ومن غير المعقول القول إن أي قيم بخلاف الكفاءة تعتبر خارج نطاق الاقتصاد، ولكن الإنسان الاقتصادي لا يدرك أهمية ذلك ـــ وهو في رأي سن "كائن اجتماعي أحمق". ونحن في حاجة إلى الالتزام بالمصلحة العامة بوصفها قيدا أخلاقيا على الاقتصاد السوقي، وهو ما يعني السماح للجميع بإطلاق قدراتهم مع ضمان توجيه هذه القدرات نحو أهداف مشتركة متفق عليها، ولا سيما في إطار أهداف التنمية المستدامة. ونظرا لخطورة الأزمة البيئية، من المهم للغاية التحول إلى نظام طاقة خال من الكربون خلال العقود الثلاثة التالية. يأخذنا ذلك إلى سؤال آخر: ما حدود مفهوم المصلحة العامة؟ تفترض إحدى الإجابات - تحمُّل مسؤولية تحقيق المصلحة المشتركة تجاه البشر جميعا. وهذا البعد العالمي من الأبعاد الراسخة في الفلسفة الأخلاقية الحديثة، كما يمثل أحد الأسس التي يستند إليها مفهوم الفيلسوف إيمانويل كانت حول الالتزام المطلق النابع عن الشعور بالواجب، الذي لا يقر إلا بقواعد السلوك التي يمكن تعميمها عالميا. وهو أيضا من الأسس التي يقوم عليها مبدأ النفعية الذي يدعو إلى تحقيق أقصى قدر من السعادة لأكبر عدد ممكن. ويظهر هذا البعد العالمي بوضوح في آراء الفيلسوف بيتر سينجر من جامعة برينستون، الذي يرى أننا ملزمون بمساعدة المحتاجين في أي مكان في العالم ما دام ذلك في مقدورنا. ويتسع نطاق المسؤولية العالمية بالطبع عند تحمل جزء من اللوم عن الأزمات "كما في حالة البلدان الغنية وتغير المناخ". ولكن أرسطو واليونانيين عموما تبنوا نموذجا أخلاقيا تمييزيا؛ حيث اعتبروا أن المصلحة العامة تقتصر على الدولة، واستبعدوا النساء والمملوكين من المعادلة. ويرتبط ذلك في جزء منه بميل كل مجموعة إلى التفضيلات الخاصة بها. ولكن علينا أن نعترف أيضا بأننا كائنات اجتماعية مرتبطة ارتباطا عميقا بالمجتمع؛ بوصفه أساس الصداقة والهوية والمقصد والأهداف، وهذا جزء أساس من فهمنا للحرب على العولمة. ولكن كيف يمكننا الموازنة بشكل أفضل بين هذه الآراء الأخلاقية المتعارضة؟ لا توجد إجابة سهلة، وتتوقف هذه المسألة على عوامل ثقافية واقتصادية. ولكن أهداف التنمية المستدامة تمثل طريقا وسط هذه المتاهة، خريطة طريق لاتخاذ إجراءات عالمية عملية ومنخفضة التكلفة من جهة، ومتوافقة مع أهم الأعراف الأخلاقية العلمانية والدينية من جهة أخرى. وفي هذا السياق، ترسي الأهداف محاور المصلحة العامة، وتحدد المتطلبات الأساسية لتحقيق الرفاهية الإنسانية في كل بلد، إلى جانب المسؤوليات المحددة للبلدان الأكثر ثراء نحو البلدان الأكثر فقرا. وسيساعد تنفيذ هذه الأهداف على إصلاح بعض الأخطاء التي تهدد العولمة والتعاون متعدد الأطراف. وعلينا أن نستعيد الجانب الأخلاقي للفكر الاقتصادي، وأن نركز عملية صنع السياسات مجددا على مفهوم المصلحة العامة، وأن نعاود تدريس الأخلاقيات كجزء من برامج الاقتصاد وإدارة الأعمال. فقد نشأ علم الاقتصاد كفرع جانبي للفلسفة الأخلاقية، ويجب أن يعود إلى جذوره.
إنشرها