default Author

هل تهدد الشعبوية الانتعاش العالمي؟

|
في ظل عودة الأوضاع الاقتصادية إلى طبيعتها بشكل أو بآخر في جميع أنحاء العالم بعد عقد من الأزمات المالية، باتت النزعة الشعبوية القومية الآن تشكل أكبر تهديد للانتعاش العالمي. كان هذا الشعور حاضرا بالنسبة إلى وزراء المالية، الذين اجتمعوا في واشنطن العاصمة لحضور اجتماع الربيع السنوي لصندوق النقد الدولي. لكن، هل من الممكن أن يكون هذا الإجماع قد برز في الوقت الذي تعالت فيه أصوات الشعبوية بدلا من السياسة الشعبوية التي تقوض الانتعاش الاقتصادي؟ هل يمكن أن يؤدي الانتعاش الاقتصادي إلى تقويض السياسات الشعبوية؟ في جميع أنحاء العالم، تبدو السياسة الاقتصادية الشعبوية في حالة تراجع، على الرغم من عدم وجود بديل واضح لهذه السياسة حتى الآن. في الولايات المتحدة، يبدو أن الرئيس دونالد ترمب قد وضع حدا لغرائزه الحمائية، كما بدأت العلاقات الاقتصادية مع الصين في الاستقرار. وفي أوروبا، على الرغم من تركيز وسائل الإعلام على نجاح السياسيين المتعايشين مع كراهية الأجانب في هنغاريا وبولندا، يأتي التحول عن القومية الاقتصادية في البلدان المهمة حقا: فرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا، حيث يتنافس الآن الحزبان الشعبويان اللذان حققا أخيرا إنجازات انتخابية لإظهار دعمهما لليورو. حتى في بريطانيا، حيث فازت القومية الاقتصادية بأكبر انتصار لها على العولمة والتعددية الثقافية في استفتاء "بريكست" عام 2016، قد يتحول هذا التيار. بدأت الحكومة البريطانية تدرك بشكل تدريجي أن الناخبين لا يريدون الانفصال بشكل كامل عن أوروبا، كما يطالب الأوروبيون المتشككون. لم يصلح أي من البديلين لعضوية الاتحاد الأوروبي اللذين قدما في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ـــ وهو "ليتل إنجلاند" الحمائي والتركيز على الداخل أو "الدول الناطقة باللغة الإنجليزية" بعد الإمبريالية القائمة على "العلاقة الخاصة" مع أمريكا والكومنولث ـــ مجديا اقتصاديا أو جذابا سياسيا للناخبين. في حين أن 3 ـــ 4 في المائة فقط من الناخبين يعترفون بتغيير آرائهم بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلا أن الغالبية العظمى تريد الاحتفاظ بمعظم فوائد التجارة الحرة، والسفر المريح، والعمالة المهاجرة، فضلا عن القوانين البيئية، وصحة المستهلكين، والتنظيم الدقيق. إن نفور الناخبين من العواقب الوخيمة لبريطانيا، على غرار الواقعية التي ظهرت تدريجيا في اليونان بعد رفض استفتاء عام 2015 لمساعدة الاتحاد الأوروبي، يساعد على تفسير التكتيكات المحيرة الأخرى لرئيسة الوزراء تيريزا ماي وحزبها المحافظ. بعد البدء بإصدار تعليمات واضحة من الشعب "لاستعادة السيطرة" من الاتحاد الأوروبي، قامت "ماي" تدريجيا بمحو خطوطها الحمراء، وذلك عن طريق إنهاء المساهمات في ميزانية الاتحاد الأوروبي، والحد من الهجرة الأوروبية، والإعفاء من القواعد الأوروبية والأحكام القضائية. وبدلا من المطالبة الصارمة باستعادة السيادة الوطنية غير المحدودة فإنها تطالب بفترة انتقالية، حيث لن يتغير أي شيء ملحوظ بالنسبة للناخبين. ومن المفاجئ، أن الحل الوسط الذي قدمته "ماي" تم قبوله بالكامل من قبل المتشددين الوطنيين الذين كانوا يهددون قيادتها في السابق. ما زال المتعصبون يأملون في حدوث انفصال كامل عن أوروبا في المستقبل، ولكن يبدو أنهم ليسوا قلقين بشأن تأجيل يوم الحسم حتى نهاية "الفترة الانتقالية مع الحفاظ على الوضع الراهن" لـ "ماي" في كانون الأول (ديسمبر) عام 2020. لكن، إذا كانت محاولة "الانفصال التام" عن أوروبا تشكل خطرا الآن، فلماذا ستصبح مقبولة بحلول عام 2020؟ لن يكون الأمر كذلك، ويفترض أن هذه الحقيقة ستملي تمديد فترة الانتقال إلى ما بعد الانتخابات العامة 2022، وما بعدها. النتيجة هي أن بريكست الصعبة المتحاربة ستتحول إلى "بريكست" المزيفة، وهي عضوية الاتحاد الأوروبي المشتركة بالأسلوب النرويجي. لن يكون كل من مؤيدي ومعارضي الانسحاب من الاتحاد الأوروبي راضين عن تلك النتيجة، التي ستحول بريطانيا إلى ما يسميه مؤيدو "بريكست" "دولة تابعة": بلد يخضع لقوانين الاتحاد الأوروبي، لكن ليس لديه الحق في التصويت أو القدرة على التأثير في هذه القوانين. لماذا تقبل بريطانيا بأن تكون تابعة؟ هذا ما يجرنا إلى العلاقة بين الشعبوية القومية والاقتصاد. المبرر الوحيد المتبقي لهذا الشكل الأسوأ من الارتباط مع الاتحاد الأوروبي، الذي تقدمه الآن ماي، هو الشعار الشعبوي "الشعب يتحدث". حتى وقت قريب، سمح استخدام هذا الشعار لجميع خصوم السياسة الحكومية بوصفهم نخبة دولية، باعتبارهم "مواطنين لا ينتمون إلى أي بلاد"، الذين يكرهون "الشعب الحقيقي". وبسبب نزع الشرعية عن المعارضة السياسية، بدا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أمرا حتميا، الأمر الذي منع الناخبين حتى من التفكير في القضايا التي قد تغير آراءهم، لكن الوضع السياسي البريطاني يتغير. مع اقتراب موعد خروج بريطانيا في آذار (مارس) 2019، فإن انتقال ماي قد يمتد إلى المستقبل البعيد، وجميع الوعود الملموسة لـ"بريكست" ستتلاشى مثل سراب الصحراء، كما سيشهد كل من البرلمان والرأي العام تحولا ملحوظا. وقد توصل حزب العمال إلى استنتاج: على الرغم من تأييد عديد من ناخبي الطبقة العاملة قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلا أن معارضته توفر الفرصة الوحيدة لإسقاط حكومة ماي. ونتيجة لذلك، تعرضت ماي للهزيمة مرارا في البرلمان، وأجبرت على التنازل عن تصويت برلماني كامل على أي اتفاق تتفاوض عليه مع الاتحاد الأوروبي. وهذه الصراعات البرلمانية تدل على أن معارضة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لم تعد سيئة باعتبارها مناهضة للديمقراطية ونخبوية. سيتم منح الناخبين فرصة الاختيار الصادق بين بديلين واضحين: قبول أي اتفاق تفاوض عليه الحكومة بشأن الخروج من الاتحاد الأوروبي، أو البقاء في الاتحاد الأوروبي بعد سحب خطر "بريكست" قبل الموعد النهائي في 29 آذار (مارس) 2019. على النقيض من ذلك، قدم الاستفتاء عام 2016 للناخبين خيارا خادعا بين الواقع والخيال: "بريكست" الخيالي، الذي يمكنهم من خلاله التعبير عن أي آمال أو تحيزات توصلوا إليها. عكس النزعة القومية الشعبوية، هذه ليست نخبوية عالمية. وإنما واقعية صادقة، التي تقوم بريطانيا الآن باكتشافها. خاص بـ "الاقتصادية" بروجكت سنديكيت، 2018
إنشرها