FINANCIAL TIMES

ماكين يستبق الرحيل بمذكرات «الحي الميت» .. متوخيا الحقيقة

ماكين يستبق الرحيل بمذكرات «الحي الميت» .. متوخيا الحقيقة

ماكين يستبق الرحيل بمذكرات «الحي الميت» .. متوخيا الحقيقة

ماكين يستبق الرحيل بمذكرات «الحي الميت» .. متوخيا الحقيقة

كتب جون ماكين وصيته الأخيرة، أثناء صراعه المرير مع مرض سرطان الدماغ، الذي وصل المرحلة الرابعة، أعطانا السيناتور الجمهوري والسياسي المتفرد من ولاية أريزونا مذكرات شخصية، هي تعليق صريح ومثير للحزن، ولكنه في نهاية المطاف رصين، حول حالة الديموقراطية الأمريكية والقيادة العالمية.
ماكين، البالغ من العمر 81 عاما، شخص فريد من نوعه، ومحارب ورجل وطني على غرار تيدي روزفلت. ومثل تيدي روزفلت، ترشح أكثر من اللازم لمنصب الرئيس.
لقد نافس بشدة، لكنه خسر مبكرا أمام جورج دبليو بوش عام 2000، ثم ترشح مرة أخرى أمام باراك أوباما، المرشح الديموقراطي المبتدئ.
سيتذكر الناس تلك الحملة الرئاسية فترة طويلة؛ بسبب اختياره سارة بالين، المرأة الغريبة ذات الوجه التلفزيوني من ولاية ألاسكا، لتكون معه في البطاقة الانتخابية الرئاسية نفسها، لمنصب نائب الرئيس.
ما يجعل من جون ماكين رجلا مميزا هو شجاعته الأخلاقية. مرة بعد أخرى، حول حقوق الإنسان أو الهجرة أو التعذيب، لم يتوان أبدا عن إبلاغ الحقائق الموجعة للسلطات. وسجله كمشرع هو متواضع نسبيا، باستثناء قانون مهم للتعامل مع لعنة تمويل الحملات، لكن بشكل عام الفترة الإجمالية التي قضاها في مجلس الشيوخ الأمريكي، والتي امتدت 31 عاما تجعل منه رجلا مميزا يحظى بمكانة مميزة.
مذكرات: "الموجة الدؤوبة" لا تحظى بمكانة تعادل مكانة مذكرات المحاربين الأخرى مثل مذكرات الحرب الأهلية الخاصة بأوليسيس جرانت، فهي لا تعد سيرة ذاتية بقدر ما هي تعليقات جُمِعت على عجل حول السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، وهي فترة تميزت على نحو لا يُمحى من الذاكرة بهجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) من عام 2011 وما بعدها من أحداث: غزو واحتلال أفغانستان والعراق، الركود العظيم عام 2008، وأخيرا، رد الفعل الشعبوي العنيف الذي أدى في نهاية المطاف إلى انتخاب الرئيس دونالد ترمب.
في بعض الأحيان، يستشعر القارئ أنها تمثل حرفيا الكلمات الأخيرة لماكين الذي يحتضر، وهذا يمنح هذه المذكرات نوعية رثائية، على الرغم من أن الانطباع الرئيس عنها هو أنها تعطي صورة عن رجل فرِح وعنيد، يشعر بالسرور عندما تطول كلماته أعداءه السياسيين.
في الآونة الأخيرة من خلال تصويته العجيب الذي جاء في اللحظة الأخيرة، والذي هدف إلى إفشال محاولات ترمب الرامية إلى إلغاء نظام أوباما كير للرعاية الصحية.
في أحيان أخرى، تتحول تلك التعليقات لتصبح سيئة. يعترف ماكين دون تردد بكراهيته لفلاديمير بوتين، وهو يرفض الرئيس الروسي ويعتبره رجلاً "شريرا" يمثل "خطرا حاضرا وواضحا" من خلال "كبريائه الذكوري، مثل المصارعين والتصرف بصورة وقحة ضد الغرب".
(الصين، في المقابل، هي التحدي الرئيس طويل الأمد أمام الولايات المتحدة، لكنها لا تحظى إلا بتعليقات قليلة للغاية) منه. القادة الآخرون أمثال ألكسندر لوكاشينكو في روسيا البيضاء، وأونج سان سو كي من ميانمار، الذين أساؤوا لحقوق الإنسان أو تعاملوا معها بأسلوب ملتو، كانوا يُقتادون إلى تحقيق فكري في الكتاب.
مع ذلك، لم يسلم زملاؤه الأمريكيون من تعليقاته اللاسعة أيضا. يوجه ماكين انتقادات قاسية للغاية إلى إدارة بوش ووكالة الاستخبارات المركزية لدعمهم "أساليب الاستجواب المعززة"، كناية عن الإيهام بالغرق، وتعذيب المشتبه بهم من الإرهابيين المعتقلين في أفغانستان والعراق، وأخيرا في خليج جوانتانامو.
تم كشف حالات الإساءة المذكورة في النهاية عندما تم جزئيا رفع السرية عن تقرير لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، حول البرنامج بعد سنوات من الجهود الناشطة من ماكين.
هذا الرجل المنحدر من ولاية أريزونا، يتهم بصراحة ومن دون مواربة وكالة الاستخبارات المركزية بالكذب إزاء قيمة المعلومات الاستخباراتية المستقاة من المعتقلين الذين تعرضوا للتعذيب، وتزويد الصحافة بمواضيع مزيفة وكاذبة، وتضليل السلطة التنفيذية، إضافة إلى الرأي العام الأمريكي. تنتهي بنشيد يتغنى بالحقيقة.
"يمكنك الفشل في قول الحقيقة، لكن الحقيقة لا يمكن أن تكون فشلا حتى إن تم تجاهلها أو رفضها. التقرير قدم الحقيقة. قد لا يهتم البعض بأننا كنا نعذب أشخاصا، لكن فشلهم الأخلاقي لا يمثل فشل الحقيقة. القيم الأخلاقية ونزاهة أمتنا، والتاريخ الطويل والصعب والمليء بالمشاكل بشأن الجهود المبذولة من أجل الدفاع عنها في داخل الوطن وخارجه، هي اختبار لكل جيل أمريكي".
التعذيب أمر شخصي جدا بالنسبة لماكين. حين كان طيارا في سلاح البحرية بعمر 31 عاما، أُسقِطت طائرته في فيتنام وكسرت إحدى ساقيه وكلتا ذراعيه.
وأمضى السنوات الخمس التالية في معسكر لأسرى الحرب، يعاني المعاملة المروعة على أيدي آسريه من فيتنام الشمالية.
(بالكاد تُذكر هذه الحادثة الكئيبة في كتابه، لكن الذين يسعون إلى الحصول على تفهم أفضل لهذا الرجل والمحنة التي تعرض لها يجب عليهم قراءة الوصف الوارد في كتاب "أغنية العندليب" بقلم روبرت تيمبيرج).
يعترف ماكين بأنه اتخذ بضعة قرارات خاطئة أثناء حياته السياسية. بالفطرة، هو من أنصار التدخل والمشاركة. مع ذلك، سجِل التدخل الأمريكي خلال العقدين الماضيين متباين في أحسن الأحوال، وهو يقر بأن غزو العراق كان تصرفا خاطئا؛ لأنه كان مستندا إلى معلومات استخباراتية خاطئة.
مع الالتزام الكافي بالأرواح والمال، يصر ماكين على أنه كان باستطاعة القوات التي تقودها الولايات المتحدة إنقاذ ذلك البلد المدمر. وهذا أمر قابل للنقاش. لا يزال الشرق الأوسط يعيش العواقب التي ترتبت على انهيار تلك الدولة والثقل الموازِن لإيران.على نحو مماثل، لا يبدو ماكين نادما على العملية العسكرية التي كان هدفها الإطاحة بالرئيس الليبي معمر القذافي، وهو يجادل بأن التهديد بحصول مجزرة في بنغازي جعل تدخل حلف الناتو أمرا لا مفر منه.
ويبدي ازدراءه لسياسة أوباما المتمثلة في "القيادة من الخلف"، في الإشارة إلى البريطانيين والفرنسيين المتحمسين، البلدين اللذين لم يستطع أي منهما إنهاء المهمة.
عندما أدلى أحد كبار المسؤولين الأمريكيين بشهادته في الكونجرس، التي تفيد بأن الولايات المتحدة كانت تتصرف دعما لحلف النيتو، رد جون ماكين، باستغراب شديد، قائلا: "دعما للنيتو؟ أمريكا هي النيتو".
في الفترة الأخيرة من ولاية أوباما الثانية، دعا الرئيس أوباما ماكين إلى حضور اجتماع دام نصف ساعة. وكان المحور الرئيس لذلك الاجتماع هو سورية، حيث حاول أوباما، لكنه أخفق في إنفاذ الخط الأحمر لاستخدام الأسد للأسلحة الكيميائية.
يتعامل ماكين مع نهج رئيس أوباما الخفيف والمرهَق عالميا نحو السياسة الخارجية (الملخص بقوله المأثور "لا تتصرف بشكل أحمق") على أنه مضلل بشكل كبير. وقراره هو: "ذلك النهج شجع حلفاءنا على البحث عن سبل للتعايش من دون وجودنا، وخصومنا على محاولة ملء الفراغ الذي ظهر بسبب إهمالنا".
هذا الموقف الذي يقوم على عدم الاستسلام يلخص شخصية ماكين، لكن في الوقت الذي تسعى فيه دائما أن يكون هذا الرجل في صفك، يبقى سؤال واحد عالقا: كيف كان يمكن أن يصبح هذا الشخص حقيقة لو فاز بمنصب الرئيس؟
لقد كانت حملاته الانتخابية (التي ترفع شعارات منها "لا استسلام") مزيجا من الفوضى المبهجة والشتائم بلغة قبيحة.
كان يمكنه الاعتماد على عدد قليل من الرجال والنساء الجيدين بتعيينهم مستشارين، وقد أحبت الصحافة أسلوب حواراته المباشر، لكنه سيدخل التاريخ باعتباره مفاوضا في أعماقه، ومتحدثا حول القضايا التي لا تحظى بشعبية، ورجل دولة متجولا بدلا من كونه ممارسا للعبة شطرنج رباعية الأبعاد، وهي اللازمة للبيت الأبيض. على سبيل المثال، لم يكن الاقتصاد قط نقطة القوة بالنسبة لماكين. لقد كان أحد المتفرجين في الجهود المبذولة لإنقاذ النظام المصرفي الأمريكي عام 2008، ولم يسهم بشكل يذكر في الاقتصاد خلال الحملة الانتخابية الرئاسية ضد أوباما.
كما أنه لم يكن لديه كثير ليقوله حول ظهور حزب الشاي، الذي نرى الآن أنه إرهاص بصعود ترمب. يبرز ماكين في أعيننا على أنه صوت منفرد في حزب جمهوري يعاني انقسامات عميقة بين الوطنيين المتعصبين المعادين للهجرة والمنادين بخفض الضرائب، وتجمع آخذ في التقلص من البرجماتيين الدوليين.
المجال الذي لا يمكن انتقاد ماكين فيه هو دفاعه عن القيم الأمريكية، وتقديره الأسلوب الذي يفترض أن يعمل فيه الدستور الأمريكي، مع ضوابطه وموازينه الرقابية الداخلية. في هذا السياق، وعلى الرغم من أنه نادرا ما كان يذكر ترمب بالاسم، إلا أن كتابه هو تحاشٍ لمطور العقارات الذي كان مضيفا للبرامج التلفزيونية، والذي يحتل الآن البيت الأبيض. نهج ترمب الشبيه بإدارة الأعمال في السياسة الخارجية، إضافة إلى إعجابه غير المحدود بالرجال الأقوياء مثل الرئيسين بوتين وتشي جين بينج، بعيد كل البعد عن النهج الذي يتبعه ماكين.
في حملته الرئاسية عام 2016، أعلن ترمب أن أسلوب التعذيب "ناجح بشكل مطلق". يرد عليه ماكين قائلا إن بيانه الذي أدلى به هو نتيجة "الجهل" وعدم فهم "أن الاحترام الإنساني البسيط ضروري وأساسي لروح الأمم، بقدر ما هو لازم لروح الشعب".
لا شك أن مثل هذه البلاغة اللغوية لا يرتاح إليها ترمب، رجل التغريدات الأول في البلاد. على أنه ربما يريد التفكير في ذكر تحذير ماكين المتعلق بمخاطر أيديولوجية أمريكا أولا "الطائشة".
بعض المسؤولين (الذين لم تذكر أسماؤهم ويكاد يكون من المؤكد أنهم جماعة "أنصار العولمة" الآخذة في التلاشي، التي يقودها وزير الدفاع الأمريكي جيم ماتيس) يحاولون التخفيف من حدة تلك الآثار، بحسب ما يكتب ماكين.
"بيد أنني أشعر بالقلق؛ لأننا وصلنا إلى مرحلة حرجة، نقطة تحول في التاريخ، والقرارات التي تم اتخاذها خلال السنوات العشر الماضية، والقرارات التي سيتم اتخاذها مستقبلا ربما تعمل على إغلاق الباب أمام عهد النظام العالمي الذي تقوده أمريكا".
الشهر الماضي، رفضت مساعِدة في البيت الأبيض رأي هذا الرجل المنحدر من ولاية أريزونا، حول مرشحة وكالة الاستخبارات المركزية جينا هاسبيل؛ لأنه: "شخص على حافة قبره، على أي حال".
كان هذا حكم يدل على غلظة القلب على نحو سابق لأوانه، في ذلك الحين، ويظل كذلك الآن. بالنسبة للسيناتور جون ماكين، ستواصل الحقيقة مسيرتها، وهي النقطة المهمة التي كرس لها حياته السياسية.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES