ثقافة وفنون

ثورة الفلاسفة «الفاشلة».. عفوية ثقافية أم هبة فوضوية؟

ثورة الفلاسفة «الفاشلة».. عفوية ثقافية أم هبة فوضوية؟

ثورة الفلاسفة «الفاشلة».. عفوية ثقافية أم هبة فوضوية؟

مضى نصف قرن على أحداث مايو (أيار) 1968 في فرنسا، التي لا يزال الاختلاف قائما بشأن توصيفها، بين من يراها "ثورة ثقافية" هزت أركان بلاد الأنوار محدثة بذلك أزمة سياسية في فرنسا، ومن يعدها مجرد "تمرد طلابي" قادته بطريقة مراهقة روح التمرد والعفوية لدى الشباب، ثم العمال الذين طالبوا ببعض الإصلاحات.
استقطبت هذه الثورة مختلف الحركات والتيارات، وساندها مثقفون ومفكرون من العيار الثقيل، لهم وزن في الساحة الفكرية الفرنسية والعالمية، ضمنهم فلاسفة من طينة جون بول سارتر وسيمون دي بوفوار وبول ريكور وميشيل فوكو وجيل دولوز وألان باديو وهنري لوفيفر.. وروائيون كبار أمثال مشيال بوتور وأندريه مالرو وناتالي ساروت... وشعراء مرموقون كفرانسوا مُورياك ومارغاريت دوراس.. وآخرون، مشكلين جدارا حصينا ضد السلطة المطلقة المتحكمة، وضد الهيمنة السائدة في الساحة الفرنسية حينها.
كانت بداية الأحداث يوم 22 مارس (آذار) 1968 في جامعة نانتير بالضاحية الغربية للعاصمة باريس، ثم امتدت شرارتها إلى الحي اللاتيني؛ ولا سيما السوربون. وبلغت ذروتها يوم 13 مايو (أيار) بإعلان إضراب عام شلّ البلاد، بعدما بلغ عدد المشاركين فيه أزيد من عشرة ملايين متظاهر، وفي حدث عد سابقة في تاريخ فرنسا الحديث.
تلته أيام من العنف المتبادل بين الشرطة والمتظاهرين، انتهت بالإعلان عن اتفاقية غرونيل في 30 مايو (أيار)، التي أقرت تعديلات على الأجور، وأدخلت إصلاحات إلى الجامعة، وفرضت حل البرلمان الفرنسي، وتنظيم استفتاء شعبي حول مجمل الإصلاحات المقترحة.
استعادت الصحافة الفرنسية هذا الشهر سردية ما وقع، تخليدا للذكرى 50 للثورة الثقافية، وانقسمت على نفسها إلى فريقين؛ يعد أحدهما تلك الأحداث هبة فوضوية هاذية، اكتفت بتحطيم جانب مهم من القيم المؤسسة للمجتمع الغربي، دون أن تتجرأ على طرح بدائل. ويرى الآخر فيما جرى ثورة عفوية، ذات طابع ثقافي واجتماعي وسياسي ضد السلطة بكل أشكالها، وضد الرأسمالية والنزعة الاستهلاكية المهيمنة، وضد السلطة الديغولية القائمة؛ نسبة إلى الجنرال شارل ديغول. وعدّتها أهم حركة اجتماعية تقطع مع القيم المتكلسة في تاريخ فرنسا الحديث.
امتد ذات الانقسام إلى الأوساط الأكاديمية الفرنسية المحتفية بأحداث 1968 على مدار الشهر الجاري، لكنه انقسام بعيون استرجاعية نقدية. فجانب كبير ممن شاركوا في احتفالية هذه السنة، دعوا إلى تجاوز السردية الرسمية التي تداولتها قلة استأثرت بالحدث وتبعاته. معبرين أن الأوان قد حان للإنصات إلى العامة، ممن شهدوا تلك الأحداث، ولم يسمع شهادتهم أحد.
لم يتردد عالم الاجتماع جون بيير لوغوف، صاحب كتاب "فرنسا الأمس: سردية عالم مراهق" 2018 (La France d'hier. Récit d'un monde adolescent) في التحذير من الوقوع فيما أطلق عليه ب "تثبيت صورة" دون فهم التغييرات التي حدث طيلة نصف قرن. وبذلك تكون النتيجة إما الحكم على الأحداث كردة وانحطاط قياسا بالزمن الماضي الجميل افتراضا، أو باعتباره زمنا يرجع إلى ما قبل التاريخ، لا يملك ما يقوله لحاضر متغير باستمرار.
إن وضع تلك الأحداث في إطارها التاريخي، يكشف عن كونها خليطا من المتعة والاحتجاج والمطالب السياسية. وبقدر ما ليس كل ما جرى في مايو 1968 شرا مطلقا، لا يمكن اعتبار ما سبقه أيضا كذلك.
بيد أن الوهم الحداثي، في نظره، يلح على اعتبار ذلك الماضي نوعا من زمن ظلامي غابر، واعتبار الحاضر مثل عالم جديد خال من كل العيوب. والحال أن التاريخ يظل ذا حدّين، وأن التطورات ليست كلها مرادفا للتقدم، لأن المسألة رهينة تصورنا للوضع الإنساني والحياة في المجتمع.
ويبقى الملمح الجديد بشأن أحداث مايو 68 هو بروز الشباب كقوة سياسية واجتماعية، استطاعت أن تنقل أفكارها إلى اليسار بخاصة ثم إلى المجتمع بعامة، وبهذا المعنى شكل ما جرى ثورة ثقافية استطاعت أن تحمل إلى دواليب السلطة فئات اجتماعية جديدة، وتنقل القضية الاجتماعية إلى المسائل الثقافية والمجتمعية، محدثة بذلك تصدعات جديدة في الطبقات الشعبية.
منذ مطلع العام الجاري، والاهتمام يتزايد بأحداث مايو 1968 بحماسة أكبر، ومن زوايا نظر مختلفة، أملا في مزيد من التفكيك والتفكيك المضاد لسردية بني عليها الشيء الكثير. وشهدت المكتبات الفرنسية بهذه المناسبة عشرات المطبوعات المخصصة لإحياء هذه الذكرى، التي شكّلت نقطة تحول مهمة في تاريخ الإنسانية، وفي المجتمعات التي جرت فيها.
انشغال مفكري اليوم بالحدث، يعيد إلى الذاكرة انشغال رموز أمثال فوكو وبودريار ودولوز وليوتار... وغيرهم، ممن شاركوا في تلك الأحداث بالإجابة في كتاباتهم اللاحقة عن سؤال "فشل الثورة"، حد بلوغ مرحلة الهدم التام للنظريات الكلية مع ليوتار، أو الإقرار بالمقارفة المطلقة مع إدغار موران حين قال "مع مايو لا شيء تغير، وكل شيء تغير. النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي عاد إلى طبيعته منذ شهر يونيو، ولكن المسار الذي انطلق سوف يبلبل روح العصر والحساسيات".
يبدو إذن أن الحدث لا يزال ملهما، فبعد نصف قرن لا تزال تلك الثغرة مفتوحة، بل إن أساس المشكل لا يزال قائما، بل إنه يزداد تصلبا مع الأزمة المتعددة الجبهات (الاقتصادية، البيئية، الأمنية، السياسية، والاجتماعية...). وتجلى بوضوح في نبذ حضارة تدعي إمتاع البشر بالعيش السعيد، ولكنها لا تستطيع أن تلبي تطلعاتهم العميقة.. إن واقعة مايو 1968 لا تزال تنضح بالدروس والعبر ما على المعنيين بها سوى تعميق النظر والفحص والتنقيب من أجل استخلاصها.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون