Author

استراتيجية التمنيات الأوروبية

|
كاتب اقتصادي [email protected]

"على الدول الأوروبية مواجهة أي نوع من أنواع العقوبات التي تفرض على إيران"
علي خامنئي ــــ مرشد إيران

لم تفق أوروبا بَعْدُ من ضربة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لها بفرض رسوم جمركية على صادراتها من الحديد والألمنيوم، حتى تلقت ضربة ثانية من نوع آخر ومن جهة مختلفة. إنها شروط علي خامنئي مرشد إيران، لا بد لكبار أوروبا أن يلتزموا بها مقابل ألا تنسحب طهران من الاتفاق النووي. هذه الشروط ترقى بالفعل إلى مستوى الإملاءات على مجموعة يفترض أنها قوية بما يكفي لتقول لخامنئي وغيره من المخربين اصمت، ولا تتكلم بما لا قدرة عليك به، والزم الحدود التي تتناسب مع ماهيتك، وتخلص من الأوهام قبل أن تأكلك ومعك بلادك نفسها، وحان الوقت لكي تتوقف عن خطابك الشعبوي البائس، الذي بات أيضا مملا حتى لأولئك الذين تستهدفهم به. كان على أوروبا أن تقول هذا وأكثر لمرشد لا يرشد بلاده في الواقع إلا إلى الخراب والمصائب والمحن.
لكن، لا غرابة في ذلك؛ فأوروبا "الكبرى" اعتادت كثيرا من هذا، منذ أن فقدت بأيديها هيبتها ونفوذها وقرارها العالمي، أو على الأقل خسرت الجانب الأكبر من هذه المزايا التاريخية الحقيقية. ويبدو أنها "أي أوروبا" استلهمت في ردودها على ذلك طريقة سفاح سورية بشار الأسد في رده على ضربات إسرائيل له وللمحتل الإيراني في بلاده، فهو "يحتفظ دائما بحق الرد"، رغم أن هذه الضربات صارت أخبارا يومية مملة، ناهيك عن أنها باتت مادة دسمة للسخرية منه ومن نظامه غير الشرعي. المهم أن أوروبا بكبارها "بريطانيا، فرنسا، ألمانيا" التزمت الصمت أو ما يشبهه، وقررت "على ما يبدو" استخدام "استراتيجية" التمنيات، بصرف النظر عن تصريح هنا وآخر هناك، يطرح أصحابه آمالا بحوار مجدٍ مع الولايات المتحدة لحل مشكلة الاتفاق النووي مع إيران.
شروط خامنئي على أوروبا تتأرجح بين إصدار بيان من مجلس الأمن الدولي يدين فيه "نكث" واشنطن التزاماتها، وعدم بحث مسألة الصواريخ الباليستية الإيرانية، والقضايا الإقليمية، وضمانات لشراء النفط الإيراني، وإلزام المصارف الأوروبية بمواصلة التعامل مع إيران. وماذا أيضا؟ احتفاظ إيران بـ "حقها" باستئناف الأنشطة النووية المعلقة. كلها شروط – إملاءات لا يتصورها أقل متابع اهتماما بالمسألة برمتها. أوروبا الرسمية لم تعلق بشيء فعلا على هذه الشروط، بينما كان الدبلوماسيون الأوروبيون أكثر مصداقية من حكوماتهم، حين أكدوا علنا أنهم يشعرون بقلق جدي من فشل التوصل إلى نتائج مطلوبة. وكانت المؤسسات المالية الأوروبية أكثر مصداقية من الجميع، حين تحدثت عن استحالة استمرارها في إيران خوفا من العقوبات الأمريكية القوية. فما ستكسبه من نظام خامنئي لا يشكل 10 في المائة من خسائرها نتيجة الغضب الأمريكي.
الأمريكيون لم يغلقوا الباب أمام المفاوضات من أجل الاتفاق النووي، ومايك بومبيو وزير الخارجية سيبدأ بالفعل محادثات مع "الحلفاء" في أوروبا والشرق الأوسط وآسيا، للضغط على إيران من أجل العودة إلى المفاوضات، لكن هذه المفاوضات لن تتضمن بالطبع شروط خامنئي، ولا طروحات أوروبا الساذجة، بل تقوم على ما أعلنته واشنطن من شروط على إيران تتضمن كل شيء تقريبا، بما في ذلك بالطبع تدخل نظام الملالي في حروب عبثية فظيعة في المنطقة، واستراتيجية الخراب التي لا تتوقف في هذا البلد أو ذاك. بل تنتشر هي نفسها على الساحة المحلية الإيرانية؛ أي على "أبطال" القارة الأوروبية أن يعرفوا مسبقا أن آمالهم لا محل لها في أي مفاوضات مقبلة، وأن السياسة البلهاء التي يمارسونها خصوصا مع أنظمة إرهابية كالنظام الإيراني، أصبحت غير مقبولة حتى عند شرائح عريضة من الرأي العام الأوروبي نفسه.
الأوروبيون أنفسهم يعرفون أن الوضع الإيراني الداخلي هش بما يكفي لإعادة النظر في كثير من السياسات التي يتبعونها مع هذا النظام المارق، وتكفي الإشارة إلى التصاعد الإعلامي غير المسبوق بين أنصار الرئيس الإيراني حسن روحاني والمرشد علي خامنئي. هذا الأخير يريد تحميل الأول مسؤولية فشل الاتفاق النووي. لماذا؟ لأنه اعتمد فقط على إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما فيها. وهذا بالمناسبة صحيح تماما؛ لأن الأخير أراد اتفاقا بأي ثمن لأسباب شخصية أكثر منها استراتيجية، قبل أن يرحل عن البيت الأبيض إلى الأبد. ومع ذلك، فقد اعتاد العالم مسرحية الخلافات بين أركان النظام الإيراني، فلا يوجد ركن مختلف عن الآخر بأي صورة من الصور.
المهم الآن، على أوروبا، وليس غيرها، أن تحضر إجابات واضحة ومقنعة وليست بلهاء في المحادثات الواسعة التي ستجريها الولايات المتحدة في الأيام المقبلة. أجوبة عن أسئلة من نوع: هل ستقوم بفرض عقوبات جديدة على إيران؟ هل ستضغط على النظام الإيراني؟ هل ستقبل بحقيقة أن الولايات المتحدة أقوى طرف في الاتفاق النووي الهش؟ أسئلة كثيرة ستكشف مرة أخرى ضآلة الهدف الأوروبي من المسألة برمتها، وهو الحصول على ما أمكن من مكاسب مالية من الساحة الإيرانية، وسذاجة ما روجه الأوروبيون على مدى سنوات من أن الاتفاق يدعم التوجه المعتدل في إيران! 

إنشرها