Author

الإصلاحات الاقتصادية .. والتحولات العالمية

|
في السنوات العشر الأخيرة شهد العالم بأسره تحولات عميقة في مفاهيم القيمة والحوكمة الاقتصادية، وعلى الأخص بعدما تكبّدت المؤسسات المالية خسائر هائلة جداً نتيجة الأخطاء الرئيسة في تقييم الأصول التي ارتكبتها مؤسسات مالية كبرى، كما أن فشل دول عديدة في تقديم بيانات عالية الدقة وشفافية كافية ومحاربة صادقة للفساد أثر بعمق في العلاقات الدولية والتحالفات الكبرى، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي، كما جاءت مشكلة اللاجئين حول العالم وما تكبّدته الدول الفاشلة من خسائر اقتصادية كبرى، بإيجاد توجهات جديدة وعميقة في محاربة الفساد والفقر على المستوى الدولي. والمملكة اليوم تعد ضمن كبريات الدول المؤثرة سياسياً واقتصادياً في العالم، وهي بهذا المشهد تقع تحت أنظار العالم ومراقبة مؤسساته. ولأهمية هذه المكانة الكبيرة ولتجنب ما شهدته دول كثيرة من اختلالات اقتصادية وسياسية خطيرة، فقد جاءت "رؤية المملكة 2030" لتعيد بناء الاقتصاد والحوكمة والعلاقات؛ حيث يتمكن الاقتصاد والمجتمع من فهم التحولات الراهنة والتفاعل معها بشكل يتناسب مع القواعد الأساسية التي بُنيت عليها هذه الدولة العظيمة، ويحقق استدامة لمشاريعنا كافة. وجاء خطاب خادم الحرمين الشريفين، في افتتاح أعمال السنة الثانية من الدورة السابعة لأعمال مجلس الشورى، واضحاً بشأن عزم المملكة -بكل قوة- الانتقال إلى مصاف الدول المتقدمة في مختلف الميادين، ولهذا تم إنشاء وإعادة هيكلة بعض الوزارات والأجهزة والمؤسسات والهيئات العامة، لعل أهمها: إنشاء الهيئة العامة للصناعات العسكرية، وجهاز رئاسة أمن الدولة، وتطوير مرفق القضاء، وإطلاق الاستراتيجية للاستثمارات العامة، وتحسين إيرادات الدولة، وتقليص العجز في الموازنة العامة. ولأن المملكة تمر اليوم بكل هذه التحولات في شتى الميادين وتقودها رؤية واضحة جدا ومعلنة وشفافة، مع قيادة حكيمة متمرسة، فإن النتائج تتحقق بسرعة في سوق العمل وبعض المهن والقطاعات الاقتصادية، ولا مفر من التأثيرات الاقتصادية المحدودة. المملكة اليوم تعمل على نقل كثير من المهام الرئيسة لتقديم الخدمات إلى القطاع الخاص، وهذا يتطلب من القطاع الخاص أن يكون جاهزاً بكل معنى الكلمة، ولأن المملكة كما أشرنا عازمة على التحول فقد تمت إعادة بناء عديد من الأجهزة والأنظمة والتشريعات ذات العلاقة، والعمل على قدم وساق لتمكين العمال السعوديين من مفاصل الاقتصاد، وهذا يتطلب كثيرا من الجهود نحو تقليل الحاجة إلى العمالة الوافدة، وأن يتم ذلك بشكل منهجي مقصود فلا يضر العمالة الموجودة الآن في المملكة، ولكن يحد من رغبة عمال جدد في القدوم إليها، ومن رغبة مَن يرغب منهم في البقاء، خاصة القطاعات المستهدفة بالخروج التي تعج بمظاهر سلبية أمنياً واقتصادياً، وهذا وفّر كثيراً من الوظائف المنظورة وغير المنظورة بشكل مباشر، وبالتأكيد سيحد من كثير من مظاهر الإغراق العمالي ويحسّن الأجور بشكل لافت ويشجّع كثيرين من أبناء الوطن على استغلال الفرص التي ستتزايد مع مضي خطط المملكة في الإصلاحات قدماً. وجاءت نتائج هذا العمل المنظم في كشف كثير من مظاهر التستر القائمة، وتقليل فرصها في البقاء، وتحجيم الإغراق العمالي فوق احتياجات القطاعات، ولعل قطاع التجزئة هو أكثر القطاعات تأثراً، وظهر من خلال إغلاق عديد من المحال؛ نظراً لسياسات التوطين أو سياسات رفع التكلفة، وعلى الرغم من ذلك فإن الأسعار لم تتأثر ولم تتأثر الخدمات التي تصل للمواطن؛ ما يؤكد صحة الإجراءات ودقة المسار. ذلك أن الحكومة وسعياً لدعم المواطن المجتهد، وأيضاً دعم هذه القطاعات التي تأثرت بالإصلاحات، فقد تم تشجيع منح القروض للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتشجيع عمل المرأة، ونشهد اليوم تحسناً بارزاً، فالأسواق قد مُلئت بالعمال السعوديين، وأصبح التنافس على العامل السعودي الماهر ظاهرة واسعة الانتشار. لقد تطلبت الإصلاحات تغيرات هيكلية أساسية في المالية العامة، وهذا بالطبع فرض كثيراً من الإجراءات في محاربة الفساد وإجراءات ضريبية غير معهودة، كما أن إصلاحات سوق العمل ورفع تكلفة العمالة الأجنبية أثّرا في الممارسات التجارية القائمة؛ فالقوائم المالية التي لم يكن يهتم بها أحد أصبحت الآن مطلوبة، والفواتير طبيعة لازمة للنشاط، وتقييم التكلفة بدقة لتحديد الأسعار فتح المجال لعديد من صغار التجار خاصة فرصة لإعادة تقييم قدراتهم ومهاراتهم، وهذا بالطبع يعيد بناء المجتمع كما هو مستهدف في "رؤية المملكة 2030"، فالتجارة والصناعة وظائف مهمة وتحتاج إلى التفرغ والخبرة والدراية. ولأن التستر كان شائعاً فقد تسور هذا المجال عديد ممّن ليست التجارة والصناعة حرفة لهم، ولما بدأت الإصلاحات تأخذ مسارها لم يجد أمثال هؤلاء دخلاً كافياً من موارد التستر لمواجهة هذه القضايا المستحدثة ولا خبرات تؤهلهم لإدارة المشاريع مباشرة، وظهرت نتائج ذلك في إغلاق بعض المؤسسات التي يدرك الجميع أنها كانت مؤسسات لا تتناسب مع مستويات الجودة التي يطلبها المواطن، ولهذا فالإصلاحات تعطي للمحترفين والموهوبين فرصاً أفضل للبقاء والازدهار. لقد شهد العالم بأسره تحولات عميقة في مفهوم القيمة ولم تعد المنتجات تُشترى وتُباع في الأسواق المعتادة؛ بل هناك اليوم تجارة إلكترونية رائجة تزحف كما التصحر على الأسواق؛ لتقتل كل المؤسسات التقليدية التي لا تستطيع المنافسة وفهم واقع الأسواق الجديدة. لقد أصبح الابتكار سيد الموقف والأسعار تحدد وفقاً للمعرفة التي تم صبها في المنتجات ولم تعد مرهونة بالمادة التي صُهرت، وآثار هذه التوجهات الاقتصادية العالمية الجديدة تظهر في الأسواق التقليدية بشكل واضح وصارخ، وذلك بعيداً عن كل السياسات الاقتصادية الراهنة. هذه التحولات تجعل عديداً من المنشآت تفلس وتغلق أبوابها، وسيبقى في الأسواق من لديه القدرة على التأقلم سريعاً.
إنشرها