ثقافة وفنون

احتس القهوة .. تصبح مثقفا !

احتس القهوة .. تصبح مثقفا !

احتس القهوة .. تصبح مثقفا !

ما الرابط بين المثقف والقهوة؟ أو لنطرح السؤال على نحو آخر: لماذا ينظر المجتمع العربي إلى المثقف بأن الواجب عليه أن يكون عاشقا للقهوة، محبا للمطر، مستمعا جيدا لأغاني فيروز؟
للقهوة والثقافة صلة وقصة قديمة، أثرى تلك الصلة تغني الشعراء والمثقفين بذلك الفنجان، حتى ظن كثيرون أنها - أي القهوة - تصنع مثقفا، لتطرح تساؤلات من نوع: ما مواصفات المثقف؟ وكيف نشأت الصلة بين القهوة والمثقفين حول العالم؟

ارتباط بتطور المجتمع
يصعب الفصل بين مفهوم المثقف بمعزل عن التطور التاريخي والاجتماعي والسياسي للمجتمع الذي يعيش فيه، فبحسب كتاب "المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية" لمحمد عابد الجابري، فإن مفهوم المثقف يرتبط ارتباطا حميميا بأدائه الفكري والمعرفي وحتى السياسي، فيما يرجع الباحثون نشأة مصطلح "ثقافة" إلى عصر النهضة، وتحديدا في عام 1550 حينما شهدت أوروبا في القرن السادس عشر انبثاق مجموعة من الأعمال الأدبية في الفن، والأدب والفكر.
أما مصطلح مثقف نفسه، فيرجعه الكاتبان الفرنسيان جاك جوليار وميشال فينوك في كتابهما "قاموس المثقفين الفرنسيين" إلى عام 1821، وذكرا فيه أن الكاتب سان سيمون هو من كتب كلمة مثقفين في كتاباته، حينما قال: "أدعو كل المثقفين إلى التجند لمواجهة الأفكار المسبقة، كما أدعوهم إلى تعبئة طاقاتهم الفكرية للقيام بأعمال نحن في حاجة إليها...".
أما تداول كلمة "مثقف" حيز التداول الإعلامي والاجتماعي، فكان في عام 1898، في إطار قضية النقيب "دريفوس" الشهيرة.

مقاه للقاء النخبة
بعد المقدمة التاريخية، إذن كيف ارتبط اسم المثقف بالقهوة والمقاهي؟
وجود المقهى لا يقوم، كما يعتقد بعضهم، على تناول المشروبات فقط، فالمقهى ارتبط بالتسامر وتبادل الأفكار وتلاقيها، لكن القهوة نالت جانبا أكبر عن غيرها.
ففي المدن العريقة، كان المقهى عبر التاريخ مكانا لالتقاء النخبة من الأدباء والمثقفين، ليكون بمنزلة ساحة ثقافية، يقولون فيها ما يريدون بكل حرية وشفافية، ومنها المقهى الباريسي الشهير "دي فلوري"، الذي افتتح عام 1890، ومن أشهر رواده بيكاسو، والكاتب الأمريكي أرنست هيمنجواي، والشاعر الفرنسي جيوم أبولينير، والفيلسوف جون بول سارتر وزميلته الفيلسوفة سيمون دو بوفوار، فيما كان فولتير وعالم الفيزياء الألماني إلكسندر فون همبولد يفضلان مقهى "بركوب".
في روما كان مقهى "جريكو" هو ملاذ المثقفين، مثل جوتة وكازانوفا، وفي فيينا اشتهر مقهى "سنترال"، وفي العاصمة التشيكية براغ اشتهر مقهى "سلافيا"، الذي افتتح عام 1863، وفي كل مدينة عريقة كان هناك مقهى أو اثنان على الأكثر يجمعان المثقفين.

قهوة الفيشاوي
ولم يكن العالم العربي بعيدا عن هذا كله، ففي مصر اشتهرت قهوة "الفيشاوي"، التي ذاع صيتها في القرن التاسع عشر وما تلاه، واستقبلت المشاهير والفنانين والمثقفين ونخبة المجتمع، بدءا من الملك فاروق، مرورا بعشرات الأدباء، مثل عباس محمود العقاد، ونجيب محفوظ، وإحسان عبدالقدوس، وآخرين.
وفي العراق، ضم مقهى "الزهاوي" مثقفي بغداد، مثل محمد مهدي الجواهري والدكتور علي الوردي، وآخرين، حتى أنه استقبل شاعر الهند الكبير طاغور.

مواصفات المثقف
تتفق كتب الأدباء والأكاديميين على أكثر من 70 % من المواصفات الواجب توافرها في المثقف، ويلخص الكاتب والطبيب الروسي أنطون تشيخوف ثلة منها في رسالة له، كتبها إلى أخيه نيكولاي في القرن التاسع عشر، يقول فيها: "لا يكفي على المثقف أن يقرأ أوراق بيكويك أو أن يحفظ منولوجا من فاوست، إنما ما يحتاجه المثقف هو العمل الدائم ليل نهار، والقراءة المستمرة، والدراسة، والإرادة، فكل ساعة هي ثمينة بالنسبة إليه".
لكن تشيخوف يضع ثماني مواصفات فريدة يجب أن يستوفيها المثقف، وهي: احترام الجانب الإنساني، لذلك يجب أن يكون المثقف دمثا، مستعدا للعطاء، ودود الجانب، لا يتشاجر بسبب توافه الأمور، يصفح عن الضوضاء. أما ثاني نقطة يضعها الأديب الروسي، فهي التعاطف، وأن يتفطر قلبه لما يراه أو لا يراه. ويضيف في النقطة الثالثة بأن على المثقف أن يحترم ممتلكات الآخرين، سواء المادية أو الفكرية. وفي رابعها، يرى بأن المثقف يجب أن يكون مخلصا، يخشى الكذب كما يخشى النار، لا يكذب حتى في مستصغر الأمور، فالكذب إهانة للمستمع ويضعه في منزلة أدنى بالنسبة إلى المتحدث، والأهم من ذلك بأنه لا يتظاهر، بل لا يتغير سلوكه في الشارع عنه في المنزل، ولا يتعمد الاستعراض أمام رفاقه الأقل منزلة، لا يثرثر، ولا يثقل على الآخرين بثقته في نفسه.
ويرى في خامس الشروط والمواصفات التي وضعها للمثقف، بحسب ما اطلعت عليه "الاقتصادية" من ترجمات، فإن المثقف لا يحط من قدره ليحصل على شفقة الآخرين، ولا يلعب على شغاف قلوب الآخرين، ولا يعاني من الخيلاء والغرور. في حين يرى في النقطة السادسة التي كتبها في رسالته، أن المثقف إذا أبرم صفقة متواضعة، فإنه لا يتباهى كثيرا بها، ولا يعطي نفسه أولوية على الآخرين، فالموهوب الحقيقي دائما ما يحافظ على اندماجه بين الجموع.
وكتب تشيخوف أن المثقف إذا كانت لديه موهبة يحترمها، ويضحي في سبيلها بالراحة، ويفخر بها، كما أنه من الصعب إرضائه، ليختم بأن المثقف ينمي الحس الجمالي داخله، قادر على كبح جماح رغباته، ويرغب في الأناقة، الإنسانية، الاحتواء والأمومة.

مثقف «يشرب مرقا»
بعد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وتغلغلها في المجتمعات، أصبح من السهل الالتقاء بالمثقف خارج المقهى، في الفضاء التويتري، على سبيل المثال، دون قهوة أو أية منبهات.
لكن مستخدمين لهذه المنصات أخطأوا فهم المثقف وعلاقته بالقهوة، إذ يعتقد بعضهم مخطئا أن القهوة تصنع مثقفا، بعد أن استدرجت تلك "السوداء" نصوص الشعراء وأدبهم.
العلاقة بين القهوة والثقافة طويلة ومتشعبة، لا يوفيها صفحة في صحيفة، ولا سيما أنها أصبحت مجالا للتندر في أوساط المثقفين، حيث يتساءل أحدهم عن كونه "يشرب" القهوة منذ ثماني سنوات ولم يصبح مثقفا؟ لينصحه آخر بأن "يحتسيها"، في حين يقول أحد المثقفين إن القهوة ليست مقياسا للثقافة، فقد تكون مثقفا لا يحتسي القهوة، بل يشرب "مرقا"!
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون