ثقافة وفنون

«عاصوف» سعودي يحرك الراكد الدرامي

«عاصوف» سعودي يحرك الراكد الدرامي

«عاصوف» سعودي يحرك الراكد الدرامي

"اللهم إني أسألك بأسمائك التي إذا دعيت بها على مغالق أبواب السماء للفتح انفتحت، اكفني شر المدرعمين المنفلتين، أما الناقدون المعترضون، فأنا كفيل بهم"، هذه هي الكلمات التي قالها الفنان ناصر القصبي قبل عرض الحلقة الأولى من مسلسله الجديد "العاصوف"، فعصف بالدراما السعودية التي تثبت يوما بعد يوم ثقلها في عالم الفن الدرامي العربي والخليجي.
ويعد الفنان ناصر القصبي من أكثر الفنانين نقدا للظواهر الاجتماعية المختلفة، ولقد كانت الكوميديا هي دمغته، لكنه كان يخفي في داخلة قدرات تمثيلية درامية تراجيدية، ظهر طيفها في كثير من المشاهد الرائعة، خاصة تلك التي ظهرت في مسلسله الشهير "سيلفي"، حيث كان يتناول فيه قضايا حساسة بأسلوب تهكمي، ولعلنا نستذكر هنا المشهد الرائع الذي قام بأدائه في حلقة "بيضة الشيطان"، التي أثارت مشاعر الرأي العام وأدمعت العيون لأدائه الدرامي المتقن، حيث تناول في تلك الحلقة الإرهاب الداعشي، وكيف أن ولده الذي كان يلاعبه وهو صغير سوف يذبحه على مرأى من إخوانه الداعشيين. إن هذا المشهد أظهر أن القصبي ليس فنانا كوميديا فقط، بل إنه درامي بامتياز، وحلقت قدراته في هذا المجال في مسلسله الأخير "العاصوف"، الذي يقدم واقع المجتمع السعودي في حقبة السبعينيات. وشارك القصبي في هذا العمل النجوم حبيب الحبيب، وعبدالإله السناني، وليلى السلمان، وريم عبدالله، وريماس منصور، وعبدالعزيز السكيرين، وزارا البلوشي، وعبدالله المزيني، وحمد المزيني، وشمعة محمد، وسواهم.


انطلق كالقنبلة
في الحلقات الأولى من المسلسل ينطلق القصبي بقضايا حساسة فجرت قنبلة داخل المجتمع السعودي، حيث بدأ بعرض مشهد لطفل لقيط، وامرأة تنتظر خروج زوجها إلى العمل وكسب لقمة العيش، بينما هي متلهفة إلى مغادرته من أجل خيانته مع رجل آخر. وأخذت مشاهد الحارة السعودية تتوالى بكافة تفاصيلها الحياتية اليومية التي كانت سائدة في تلك الحقبة على هيئة مسلسل "باب الحارة"، الذي عرض تسعة أجزاء وتناول أيضا حقبة زمنية سابقة من المجتمع السوري، وسلط الضوء على تاريخ سورية إبان الحكم الفرنسي. ولقد أعلن القصبي في وقت سابق عن تسجيل خمسة أجزاء من مسلسل "العاصوف" يروي سيرة الرياض منذ السبعينيات إلى الوقت الراهن.
ولم يبتكر القصبي أحداث مسلسله من العبث، بل جاءت من رواية للكاتب السعودي الراحل عبد الرحمن الوايلي "بيوت من تراب"، وأخرجه السوري المثنى صبح، حيث إنه بين صفحات ذلك الكتاب شرح الوايلي باستفاضة كيف تغير المجتمع السعودي من النقيض إلى النقيض، وكيف كانت حقبة السبعينيات نقطة تحول كبيرة في طبيعة وشكل المجتمع، مع ظهور الحركات الدينية المتشددة، أو ما عرف باسم "تيار الصحوة"، وترجم القصبي تلك الكلمات إلى مشاهد تلفزيونية متقنة، أداء وفنا.
ولا يركز المسلسل على جانب واحد من جوانب المجتمع السعودي، بل يستعرض الحياة بأكملها خلال خمس سنوات، في الفترة من عام 1970 حتى 1975، حيث تناول المناسبات العامة والخاصة، والواقع الثقافي والاقتصادي، فضلا عن الأفكار التي كانت سائدة لدى العامة في تلك الفترة، وكذلك طريقة التعاملات التجارية والحياتية وكيفية حياة الأسر السعودية بمختلف أفرادها داخل وخارج المنزل.
وفي مشاهد ملفتة، صور القصبي طريقة الزواج في تلك الفترة حينما نقل أحداث زواج سارة، التي تلعب دورها الممثلة زارا البلوشي، إذ كانت السيدات يجتمعن في سطح المنزل والرجال يجتمعون في الساحة أمام المنزل، أما الجيران فكانوا يسهمون في مساعدة أهل العريس بالإعداد والترتيب للتجهيز للزواج في الحي.

المرأة في «العاصوف»
يظهر المسلسل المجتمع السعودي كمجتمع بسيط يتسم بالتسامح والهدوء وينعم بكثير من العادات والتقاليد التي تبث روح الطيبة، حيث كان ينظر إلى المرأة كشريك طبيعي في الحياة والمجتمع، وظهرت حقيقة حياة المرأة في مشاهد كثيرة، أولها كان مشهد استقبال الممثلة "ليلى السلمان" لجارتها الجديدة أم راشد، حيث كشف لنا هذا المشهد كيف كانت الحياة طبيعية بين الجيران وكيف كان يتزاور النساء، وكيف كانت تتمتع المرأة بحرية في الحركة لإقامة علاقات اجتماعية طيبة بعيدا عن دعاوى المغالاة والتشدد.
كما ظهرت أزياء النساء في حقبة السبعينيات، حيث كن يرتدين أزياء بسيطة تعتمد على الفستان البسيط والطويل والأقمشة الملونة بألوان زاهية للفتيات اللاتي لم يتزوجن والألوان الغامقة للسيدات المتزوجات، وتميزت الفتيات في تلك الفترة بالشعر الأسود الطويل، الذي كن يتنافسن بطوله وجماله الطبيعي بالرقص به في الأعراس، وهي الرقصة المعروفة في الخليج.
تخطى عقبات الإنتاج
ليس من السهل تقديم عمل يتحدث عن حقبة تاريخية قديمة، إذ يواجه القيمون مشكلات كثيرة من النواحي الإخراجية والإنتاجية، أبرزها تحضير الملابس الخاصة، والديكورات والأثاث القديم، التي من المفترض أن تظهر بشكل طبيعي كي لا يتحول المسلسل إلى مهزلة، لذلك حظي المسلسل بدقة متناهية في الإنتاج، ولم تبخل قناة MBC عليه، حتى بالسيارات القديمة النادرة، كما أنها بنت مدينة متكاملة على مشارف دبي بمساحة 6500 متر، بدت وكأنها قطعة من الرياض عام 1970، فجاء المسلسل واقعيا بكل تفاصيله ويحاكي تلك الحقبة بكافة زواياه وطابعه العام. ولقد أكد القصبي في حديث سابق له على ضخامة الإنتاج، حيث قال: "لحسن الحظ أن أم بي سي وشركة O3 كانتا وراء التنفيذ، فأمنتا إنتاجا جيدا، ولولا ذلك لما كان باستطاعتنا تقديم الصورة كما يجب".

«العاصوف» بين مخالب النقاد
فور عرض الحلقة الأولى من مسلسل "العاصوف" انهالت على القصبي انتقادات جمة، وطالب بعضهم بإيقاف عرضه، حيث قال المعارضون والنقاد إن مثل هذه القصص لا تمثل أهل نجد، وتبرز جوانب سلبية غير موجودة، وعبروا عن غضبهم من مشهد وضع "الطفل اللقيط" أمام باب المسجد، وهو المشهد الأول في المسلسل، وعدوه أنه يعطي إيحاء للمشاهد بأن مثل هذه الأمور كانت تحدث بشكل طبيعي في المجتمع، في حين رأى آخرون، وعلى النقيض، أن مشهد الطفل منتشر في أغلب المجتمعات العربية حتى الآن، وهي حالة فردية لا تسيء إلى مجتمع بأكمله، وأشادوا على مواقع التواصل الاجتماعي بالمسلسل، وعدوه بمنزلة علامة فارقة في تاريخ الفن السعودي، وعمل درامي جريء جدا، مؤكدين أنه جسد رسالة الفن الحقيقية، كذلك عد مؤيدو المسلسل أن التاريخ لم يعرف وجود مجتمع فاضل بدون سلبيات، وأن دور الفن هو تسجيل وتصوير المجتمع على حقيقته وكشف عيوبه لإعادة النظر فيه وتطويره والتقدم به نحو مستقبل أفضل، وهو ما حاول مسلسل "العاصوف" أن يفعله عبر حلقاته، من وجهة نظرهم.
تجدر الإشارة إلى أن كلمة "العاصوف" هي كلمة دارجة في اللهجات الخليجية بكثرة، وتعني "عصف بالشيء" أو "دفعه للتحرك"، ويقال في الأمثال العربية "أسرع من عاصوف" للتعبير عن شدة السرعة، حيث كانت تطلق الكلمة في الماضي على "الرياح القوية".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون