Author

البشتون يتحدون الجيش الباكستاني

|
منذ انفصالها عن الهند البريطانية عام 1947 وباكستان تتنقل من أزمة داخلية إلى أخرى، ومن إذلال رئيس مدني إلى إذلال آخر، بينما العامل الثابت هو قوة نفوذ العسكر. ويمكن القول إن حرب البنغال، التي انتهت بهزيمة مرة لجيشها المعروف بجاهزيته العالية ومناقبية عناصره الرفيعة، هي أم أزماتها، ليس لأنها فقدت كامل جناحها الشرقي ليصبح هذا الجناح دولة ثالثة ضمن شبه القارة الهندية تحت اسم بنجلادش، وإنما أيضا لأن الحدث زعزع المبدأ الذي قام عليه الكيان الباكستاني وهو تمثيله كافة مسلمي شبه القارة الهندية. واليوم تلوح في سماء باكستان أزمتان، للجيش صلة بهما بصورة أو بأخرى، أولاهما سياسية تتعلق برئيس الوزراء السابق نواز شريف الذي أقيل من منصبه بحكم قضائي في العام الماضي بسبب ما قيل عن فساده وفساد أسرته، فيما ألمح هو وعائلته إلى مؤامرة وتدخل من الجيش لإقصائه بسبب تمتعه بنفوذ واسع وشعبية قوية. حيث أدلى شريف أخيرا بتصريح لكبرى الصحف اليومية المحلية وهي صحيفة "دون" DAWN قال فيه ما معناه أنه كان يجب معاقبة مخططي الهجمات الإرهابية ضد الهند في عام 2008 في إشارة إلى الذين انطلقوا من باكستان لاستهداف عدد من الفنادق الفاخرة والمطاعم الشهيرة والمستشفيات ومحطات القطار المكتظة والمجمعات السكنية في مومباي في نوفمبر سنة 2008، فقتلوا بدم بارد ما لا يقل عن 195 شخصا، وأصابوا مئات آخرين. هذه الدعوة أغضبت، بطبيعة الحال، جنرالات الجيش المتنفذين الذين سبق لهم التدخل لإيقاف محاكمة أولئك الإرهابيين. وقد تمثل غضبهم في تحريك الموالين لهم من ساسة ورجال إعلام لاتهام شريف بالخيانة العظمى. وهذه التهمة عقوبتها الإعدام بموجب المادة السادسة من دستور البلاد، وهي العقوبة نفسها التي تخلص بها حاكم باكستان العسكري الأسبق الجنرال ضياء الحق من رئيس الوزراء المدني الأسبق وأحد أبرز قادة باكستان في العصر الحديث ذو الفقار علي بوتو في الرابع من نيسان (أبريل) 1979. فهل يا ترى يسعى الجيش مجددا إلى التخلص من سياسي مدني بارز كشريف مثلما تخلص من بوتو، وبالوسيلة نفسها؟ أما الأزمة الأخرى فتكاد أن تكون مشابهة لأزمة بنجاليي باكستان الذين انتفضوا في عام 1970 ضد الظلم والتمييز الذي مارسه قادة باكستان الغربية عليهم، الذي بلغ ذروته في عدم تمكين الفائز في انتخابات عام 1970 بالأغلبية المطلقة وهو الزعيم البنجالي الشيخ مجيب الرحمن من قيادة البلاد، فقط لأنه من الإثنية البنجالية. ففي الأسابيع الأولى من أيار (مايو) المنصرم نشرت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية تقريرا حول ميلاد حركة جديدة في باكستان تحت اسم "حركة حماية البشتون"، هدفها تحدي جنرالات الجيش الباكستاني الذين ــ بحسب الحركة ــ غير مكترثين بأحوال الملايين من بشتون باكستان ويمارسون التمييز ضدهم، بل يسعون إلى شيطنتهم وتشويه سمعتهم والطعن في وطنيتهم عبر الادعاء بأن حركتهم وحراكهم مؤامرة أجنبية ضد الدولة الباكستانية تقف وراءها قوى أجنبية ساعية لتفتيت الأخيرة، أو عبر الادعاء بأن كل بشتوني ما هو إلا متطرف أو مشروع تطرف، وبالتالي يجب القضاء عليه أو تقييد حريته. والحقيقة أن حراك بشتون باكستان، الذين لهم امتدادات قبلية بالملايين في الجوار الأفغاني، ليس وليد اليوم، لكن تصعيدهم وانتفاضتهم الأخيرة ضد الجيش والسلطات الباكستانية جاء في أعقاب مقتل قيادي بشتوني شاب على يد أحد كبار مسؤولي الشرطة في كراتشي في فبراير الماضي. هذا الحدث أطلق الشرارة لهم كي يعتصموا ويضغطوا باتجاه تحقيق بعض المطالب التي راحت تتزايد يوما بعد يوم. فمن المطالبة بمحاكة قاتل القيادي البشتوني الشاب، إلى المطالبة بالتحقيق في قضية اختفاء أكثر من 30 ألف بشتوني على أيدي رجال الاستخبارات، فإلى المطالبة بإزالة حواجز الجيش في المناطق البشتونية وتطهيرها من الألغام، فإلى المطالبة بوقف الدهم والاعتقالات التعسفية، وصولا إلى مطالبات بالانفصال عن الكيان الباكستاني. ولتخفيف حدة التوتر لجأت السلطات الباكستانية إلى تقديم وعد للبشتون حول الاستجابة لبعض مطالبهم، لكنها لم تنفذ منها شيئا يذكر حتى الآن، الأمر الذي عاود معه البشتون مظاهراتهم واعتصاماتهم وشحذ التأييد لقضيتهم من الداخل والخارج، علما بأن الجهة الخارجية الوحيدة التي أيدت قضيتهم حتى الآن هي نظام الرئيس الأفغاني أشرف غني. ويبدو أن الكيل قد فاض بهم، فعمدوا إلى تنظيم أنفسهم في "حركة حماية البشتون" آنفة الذكر، التي ينظر إليها عسكر باكستان بالعين المتوجسة نفسها التي نظروا بها إلى حزب عوامي الذي قاد حركة انفصال باكستان الشرقية بعد أن طفح الكيل بقادته، بدليل أن الجنرال قمر جاويد باجوه قائد الجيش الباكستاني اتهم قادة الحراك البشتوني الجديد بالعبث بأمن البلاد وهددهم، فما لبثت السلطات الرسمية أن سجلت دعاوى قضائية ضدهم بتهمة خيانة الوطن. والمأمول أن يستوعب قادة باكستان وجيشها الحاليون ما ارتكبه رئيس البلاد وقائد الجيش الأسبق الجنرال يحيى خان من رعونة وقسوة وتطرف في تعامله مع البنجاليين المنتفضين، فكانت النتيجة كارثية. وبعبارة أخرى، عليهم أن يستوعبوا دروس الماضي فلا يكرروا ذلك المشهد السبعيني مرة أخرى في تعاملهم مع المنتفضين البشتون، رفقا ببلدهم، وتفاديا لتفتيته مجددا، أو كما قال "أبوبكر الصديق" صاحب كتاب "المسألة البشتونية .. معضلة لم تعرف الحل": "حري بجنرالات باكستان ترجيح كفة مصلحة البلاد على كفة مصالحهم".
إنشرها