FINANCIAL TIMES

في ماليزيا .. استدعاء المهندس القديم لتفكيك النظام القديم

في ماليزيا .. استدعاء المهندس القديم لتفكيك النظام القديم

واجهت ماريا تشين عبدالله تهديدات بالقتل، واحتجزت دون محاكمة في الحبس الانفرادي، وتعرضت لعدد لا يحصى من تحقيقات الشرطة، أثناء حملتها ضد الفساد في مسقط رأسها ماليزيا.
وهي لا تزال تواجه المحاكمة بتهمة تنظيم تجمع غير قانوني، وقد منعت من السفر إلى ولاية ساراواك في جزيرة بورنيو.
ومع ذلك، ستقوم السيدة عبدالله، كما كانت تفعل خلال الأسبوعين الماضيين، بالعمل نائبة في تحالف باكاتان هارابان (تحالف الأمل) الحاكم الجديد في ماليزيا.
هذه السيدة التي تبلغ من العمر 61 عاما أم لثلاثة أبناء، وهي رمز قوي لكل شيء تغير منذ الصدمة الانتخابية في 9 أيار (مايو) الجاري، عندما طرد الحزب الحاكم من السلطة لأول مرة منذ الاستقلال عام 1957.
بعد عقود من محاربة انتهاكات حقوق الإنسان من قبل الحكومات الاستبدادية في ماليزيا، التي كان آخرها حكومة رئيس الوزراء السابق نجيب رزاق، عليها الآن أن تواجه تحدياً أكبر من ذلك، ألا وهو تفكيك النظام القديم وتنفيذ الإصلاح في كل كبيرة وصغيرة من خلال دورها كنائبة برلمانية.
تقول السيدة ماريا: "على مدى 61 عامًا، كان الأمر مجرد نقد، لكن علينا الآن تنفيذ ما نقوله. إنها مهمة صعبة؛ لأن الائتلاف الجديد ليس متجانساً بالكامل. تسوية خلافاتنا ومبادئ ديمقراطيتنا الجديدة ستستغرق بضع سنوات".
قام هذا التحالف على موجة من الغضب ضد الفساد المتصور لحكومة نجيب. وهو يمثل واحدة من أكثر حالات الرفض العجيبة للديكتاتورية في السياسة العالمية الأخيرة، حيث أُطيح بالمنظمة الوطنية الماليزية المتحدة - التي كانت في السلطة لأكثر من 60 عاما - في صندوق الاقتراع.
والأمر الأكثر مدعاة للانتباه هو حقيقة أن هذه الثورة الإصلاحية كان يقودها الرجل القوي السابق مهاتير محمد، رئيس الوزراء من عام 1981 إلى عام 2003، في تحالف مع الشخص المقرب منه الذي تحول إلى عدوه اللدود، أنور إبراهيم.
مع تلاشي البهجة الأولية، يواجه مهاتير، البالغ من العمر 92 عاماً، الذي استعاد منصبه رئيسا للوزراء، المهمة الهائلة المتمثلة في الوفاء بوعود ائتلافه بإلغاء القوانين القمعية، وإصلاح المؤسسات الفاسدة وضمان تقسيم أكثر عدلاً للغنائم الاقتصادية.
التشكك في تحوله العجيب إلى الديمقراطية التشاركية هو واحد من العقبات العديدة أمام حكومته.
خلال فترة حكمه الطويلة، قامت المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة بالتلاعب بالنظام القانوني والخدمة المدنية والشركات المملوكة للدولة لتحقيق غاياتها الخاصة.
القمع والتلاعب الانتخابي والادعاءات بالفساد وصلت إلى أوجها في عهد نجيب، الذي مُنع من مغادرة البلاد بعد أن أطلق مهاتير تحقيقاً جديداً في اتهامات باختلاس مليارات الدولارات من صندوق الدولة 1MDB الذي تعصف به بالديون، والذي أنشأه نجيب.
إذا استطاع مهاتير إصلاح الأمر على الوجه الصحيح، فإن هذه الدولة متعددة الأعراق التي يبلغ عدد سكانها 31 مليون نسمة، يمكن أن تصبح مثالاً في منطقة رزئت بالحكومات القمعية، وتعكس استنزاف العقول الذي دام سنوات وتحويل آفاق هذه السوق الناشئة، التي جذبت مجموعة واسعة من المستثمرين العالميين.
من ميانمار إلى جنوب إفريقيا ومن إندونيسيا إلى مصر، ثبت أن من الصعب إجراء تحولات من السلطوية إلى الأنظمة الأكثر ديمقراطية. أنور إبراهيم، الشخصية القوية في "تحالف الأمل" الذي أُطلِق سراحه من السجن الأسبوع الماضي، ليست لديه أي أوهام حول التحدي الذي يواجهه – ويواجه مهاتير - إذا تولى منصب رئيس الوزراء في غضون عام أو عامين، كما هو مخطط له. "أنا دارس للتاريخ"، كما يقول. "أدرك كيف أن الثورات والحركات الشعبية خيبت أمل الجماهير".
ويضيف: "القضية الرئيسة لا تزال هي الحوكمة... والمساءلة الديمقراطية. لا يمكن أن تكون لدينا لجنة انتخابات تنخرط في ممارسة احتيالية، ولا يمكن أن يكون لدينا قضاء يتصرف بناء على طلب الحكومة، لا يمكننا امتلاك وسائل إعلام يجري ترويعها".
النقاد يعترفون بأن مهاتير تحرك بسرعة منذ أن أدى اليمين في 10 أيار (مايو) الجاري، لبدء تفكيك النظام الذي ساعد على إنشائه. وقد حصل رئيس الوزراء على عفو ملكي كامل لأنور، الذي كان قد سجن لأول مرة في ظل حكم مهاتير بين عامي 1998 و2004 قبل أن يسجن مرة أخرى في عهد نجيب عام 2015، واستطاع تأمين خروج المدعي العام ورئيس الهيئة الماليزية لمكافحة الفساد.
وقد أنشأ لجانا لتقديم المشورة بشأن الإصلاحات المؤسسية والاقتصادية، والتحقيق في صندوق 1MDB، الذي تم تحويل على الأقل 4.5 مليار دولار من أمواله أو غسلها، وذلك وفقا لوزارة العدل الأمريكية.
الشكوك لا تزال قائمة. وعلى الرغم من أن مهاتير عين بعض المناصرين للمجتمع المدني والتكنوقراط في هذه اللجان، إلا أنه اختار آخرين، مثل دايم زين الدين المستشار الاقتصادي ووزير المالية السابق، الذي يرتاب كثير من الماليزيين في أنهم إصلاحيون حقيقيون. كما تحتوي حكومته على مزيج من قوى المعارضة مثل وان عزيزة وان إسماعيل، نائبة رئيس الوزراء وزوجة أنور إبراهيم، إلى جانب مزيد من المتحولين الجدد نحو الإصلاح من أمثال محيي الدين ياسين، وهو عضو مهم سابق في المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة، ويشغل الآن منصب وزير الشؤون الداخلية.
كثير من مؤيدي تحالف الأمل يقدمون لمهاتير فرصة لإثبات أنه غير مواقع تركيزه، بعد أن ساعدتهم جهوده على تنسيق أحزاب الائتلاف المتباينة، وشعبيته مع الناخبين الملاويين في المناطق الريفية على الفوز في الانتخابات، على الرغم من ضعف الاحتمالات. ويقولون إنه يجب عليه الحفاظ على زخم الإصلاح من أجل الاحتفاظ بائتلافه الذي يضم حزبه الذي يهيمن عليه الملايو المنشقون من المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة، وحزب العدالة الشعبية التابع لأنور، وحزب العمل الديمقراطي الذي يهيمن عليه العرق الصيني.
يقول سيفان دوريسامي، المدير التنفيذي لمجموعة سوارام، وهي منظمة معنية بحقوق الإنسان: "حققت الحكومة الجديدة بداية جيدة، لكنها تواجه مهمة ضخمة، ولا سيما فيما يتعلق بالإصلاح القانوني".
وسوارام واحدة من عدة منظمات خاضت معركة دامت عقودا من الزمن لوقف حكومة المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة، والشرطة التي تستخدم قوانين غامضة لسحق المعارضة.
وفي العام الماضي وحده، وثَّقت منظمته 155 حالة واجه فيها أشخاص دعوى قضائية انتهكت حرية تعبيرهم، وسجلت 280 حالة احتجاز دون محاكمة بموجب قوانين تعرضت لانتقادات شديدة.
يريد دوريسامي ونشطاء آخرون من الحكومة فرض حظر فوري على استخدام مثل هذه القوانين، قبل أن يتم تعديلها أو إلغاؤها عندما يعود البرلمان في الأشهر القليلة من عطلته. أظهر مهاتير أفكاره الجديدة باستخدام منصة تويتر لتوبيخ الشرطة، لاعتقالها رجلاً انتقده على موقع فيسبوك، ووعد بمراجعة القانون ذي الصلة عند انعقاد البرلمان. تقول أماندا وايتنج، أستاذة القانون الماليزي بجامعة ملبورن، إن المشكلة تتجاوز القانون نفسه إلى ثقافة التعصب "الراسخة" التي لا تحتمل النقد والتدخل في العملية القضائية.
وتضيف: "يجب أن يكون هناك تحول ثقافي، لا يمكنهم فقط تغيير القوانين. هناك انعدام تام في الثقة ببعض المؤسسات العامة الرئيسة مثل المدعي العام. هناك شكوك قوية حول نزاهة القرارات التي اتخذت - واستعداد كبار الشخصيات للرضوخ – وهؤلاء قيد التحقيق الآن".
أصبحت ثقافة الفساد والتواطؤ والمحسوبية هذه جزءاً لا يتجزأ من الخدمة المدنية المتضخمة في ماليزيا، التي وعد مهاتير بتقلصيها إلى حد كبير، مع البدء بإبعاد 17 ألفاً من المعينين السياسيين الذين خدموا في عهد نجيب.
يدعي ونج تشين، عضو البرلمان عن تحالف الأمل، أن ما يصل إلى 40 في المائة من الإنفاق الحكومي السنوي، المتوقع أن يصل إلى 59 مليار دولار هذا العام، يضيع بسبب الفساد والهدر، مع قيام الحكومات السابقة للمنظمة الوطنية الماليزية المتحدة بتسليم العطايا والعقود للأطراف الصديقة.
ويقول: "المسار الذي نحتاج إليه واضح. السؤال هو: هل لدينا الإرادة؟"
ازدادت ادعاءات الفساد بشكل ملحوظ في عهد نجيب، ولا سيما حول 1MDB. من ناحية، تم دفع 681 مليون دولار من حساب نجيب المصرفي، فيما قال في وقت لاحق إنه "قرض ميسر" من أفراد من عائلة خليجية حاكمة، وقال إنه سدد معظمه. وكان ينفي دومًا ارتكاب أي مخالفات بشأن 1MDB. مهاتير أخذ يطارد سلفه بحماس، حيث عمل على تعيين مسؤولين محترمين لمكافحة الكسب غير المشروع، ضمن لجنة خاصة للتحقيق في اتهامات جنائية محتملة تتعلق بالصندوق.
كما أذن للشرطة بإجراء عمليات تفتيش مكثفة على الممتلكات التي استخدمها نجيب وعائلته، مع العثور على عدة مئات من حقائب اليد من العلامات التجارية المشهورة، وعشرات الحقائب المليئة بالمجوهرات والنقود، وغيرهما من الأشياء الثمينة التي صودرت من مجمع سكني فاخر في كوالالمبور وحدها.
وقد انتقد محامي نجيب الطريقة "المتعجرفة وغير المسؤولة" لتصرف الشرطة، لكن مهاتير يقول إن الحكومة الجديدة تتبع حكم القانون، بدلاً من السعي إلى الانتقام.
وقال شكري عبدول، الرئيس الجديد للجنة مكافحة الفساد، يوم الثلاثاء الماضي: "إذا أخطأ أي شخص، فإن القانون سيقرر، لكنني لن أقوم بالانتقام بأي شكل".
وادعى نائب رئيس اللجنة السابق أنه أُجبر على الخروج من المنظمة خلال حكم نجيب بعد تلقيه تهديدات بالقتل لملاحقته في قضية 1MDB. وحيث إن هناك دفعات للعوائد على السندات لا بد من تسديدها، يتعرض مهاتير لضغوط للتحرك بسرعة حول 1MDB. يقول وزير المالية الجديد ليم غوان إنغ إن الحكومة الأخيرة ضخت 1.8 مليار دولار في 1MDB منذ نيسان (أبريل) 2017 لتغطية التزامات خدمة الديون.
يقول أحد المصرفيين في كوالالمبور: "هناك كثير من المشكلات. هم بحاجة إلى تحديد أين تقع جميع المطلوبات، وما الصفقات المشبوهة التي تم القيام بها؟ وما المخاطر المتبقية"؟
بيتر مامفورد، مدير قسم آسيا في مجموعة أوراسيا جروب Eurasia Group، وهي شركة استشارية في مجال المخاطر السياسية، يجادل بأن هناك حدوداً لمدى تصدي رئيس الوزراء الجديد للفساد. ويضيف: "يحتاج مهاتير إلى إثبات أنه يقوم بتنظيف النظام، لكنه سيكون حذرا وانتقائيا في تنظيف المستنقع. هناك كثير من الخفايا".
نالت رسالة المعارضة المناهضة للفساد شعبية؛ لأنها ربطت الغضب من ارتفاع تكاليف المعيشة وعدم المساواة الاجتماعية على نطاق واسع بالتجاوزات المزعومة لإدارة نجيب. وعلى وجه الخصوص، وعد تحالف الأمل بإلغاء ضريبة السلع والخدمات (ضريبة القيمة المضافة) البالغة 6 في المائة، التي استحدثت في عهد نجيب عام 2015، حيث لقيت المدح من الاقتصاديين الدوليين، الذين يعتقدون أن من الحكمة أن تنوع الحكومة قاعدة عائداتها بعيداً عن إنتاج النفط.
سيتم إلغاء ضريبة السلع والخدمات اعتبارا 1 حزيران (يونيو) المقبل. الحكومة لم تتوصل إلى خطط ملموسة لكيفية استبدال الأموال المفقودة - التي كان من المتوقع أن تصل هذا العام إلى نحو 12 مليار دولار، أو نحو خُمس إيرادات الدولة - أو تمويل غيرها من التعهدات الشعبوية، مثل إعادة بعض دعم الوقود وإلغاء رسوم الطرق السريعة.
يقول مستشار اقتصادي رفيع المستوى للحكومة، إن الانتعاش في أسعار النفط منذ عام 2015، سيعطي ماليزيا مساحة كبيرة للتنفس في الوقت الراهن – بيد أن كل المحللين ليسوا مقتنعين بذلك.
يتساءل ستيف كلايتون، الرئيس التنفيذي لبنك جي بي مورجان في ماليزيا: "كيف سيعوضون الإيرادات الضائعة من ضريبة السلع والخدمات؟ هناك فجوة كبيرة لا بد من سدها".
سيتعين على مهاتير أيضاً أن يحدد كيف سيضمن توزيع ثمار النمو الاقتصادي السريع في ماليزيا - مع زيادة الناتج المحلي الإجمالي بـ 5.9 في المائة العام الماضي - بشكل أكثر عدلاً.
قد تساعد المراجعات الموعودة - وربما إعادة التفاوض المحتملة - لمشاريع البنية التحتية التي تقدر بمليارات الدولارات، والمتفق عليها مع الحكومة الصينية، كجزء من مبادرة الحزام والطريق للرئيس تشي جين بينج في توفير مزيد من فرص العمل المحلية. على أن إعادة كتابة ما وصفه مهاتير بأنه "معاهدات غير متكافئة" مع الصين سيكون صعباً. تنفيذ هذا العدد الكبير من التغييرات الشاملة دفعة واحدة أمر معقد - ومحفوف بالمخاطر. التوقعات عالية، والماليزيون عازمون على محاسبة قادة البلاد. يقول باهاروم، وهو مدرب شخصي يبلغ من العمر 52 عاماً ومؤيد لأنور إبراهيم: "أعظم مخاوفنا هو أن تتسلل العادات السيئة وتعود إلى النظام مرة أخرى، وأن ينتهي بنا المطاف إلى الحصول على مجرد نسخة ثانية من المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة. الفرق هذه المرة هو أن الناس رفعوا أصواتهم. إذا لم يقوموا بالإصلاح، فسوف نطردهم".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES