Author

جدة داخل السور .. جدة خارج السور

|

من كلاسيكيات مدينة جدة أن العلاقة بين رؤساء البلدية وأهالي جدة علاقة تتسم بالجفاء وعدم الرضا. ورغم أن نحو 27 رئيسا للبلدية مر على جدة، وكان أولهم محمد المحتسب، وآخرهم البروفيسور هاني أبوراس، إلا أن العلاقة بين الأهالي ورؤساء بلدياتها ظلت في منطقة عدم الرضا، ولكن نستثني من هؤلاء اثنين هما: الدكتور محمد سعيد فارسي، والبروفيسور هاني أبوراس.
الدكتور محمد سعيد فارسي حاول الحفاظ على التراث داخل السور، ولكنه وضع كل ثقله في جدة الحديثة خارج السور، وزينها بأعمال رفيعة المستوى لكبار فناني وتشكيليي العالم، بينما البروفيسور هاني أبوراس أعاد هندسة جدة خارج السور، ثم وضع مشروعا جديدا عن "داون تاون جدة" Down Town وحوله من تراث يعيش في الحاضر.. إلى تراث متجدد يعيش في المستقبل.
إن تاريخ المدن له أهمية كبيرة عند عشاق الحضارات، فحينما تتحدث إلى الأمريكي عن التاريخ والماضي تقرأ على وجهه ثمة انفعالات لا تقرأها في وجوه الأجناس الأخرى.
والسبب أن العراقة التي يختزنها التاريخ يحس بها الأمريكي أكثر من أصحابها؛ لأنه يفتقدها في وطنه الجديد.
وأنا لي تجربة بسيطة في هذا الصدد، فحينما كنت أدرس في الولايات المتحدة ارتبطت وأسرتي بإحدى الأمريكيات المتقدمات في السن، ووجهنا لها دعوة لزيارة المملكة، وفعلا تمت الزيارة، وخرجت الأمريكية من هوليوود الأمريكية إلى حارة اليمن في جدة السعودية. ولا أكتمكم كنت أخشى عليها من صدمة الحضارة، فالفارق شاسع وحاد بين هوليوود وحارة اليمن، وكنت قد تعودت - حينما أعود من إجازتي إلى المملكة - على تناول طعام الإفطار يوميا مع العم حمزة فتيحي في مقعده الوثير في حارة اليمن، واتصلت بالعم حمزة تليفونيا وأخبرته بأنني سأفطر معه غدا في المقعد، ولكن لن أكون وحدي، وستكون معي إحدى الأمريكيات النجلاوات، وضحك العم حمزة ولم يصدقني، وظن أنني أداعبه، ولكن حينما وصلت وغادرتُ السيارة كانت السيدة بيرتي تغادر معي المركبة، واتجهنا معا ومعنا صديقي غازي كيال- يرحمه الله-، وكلما اقتربنا من المقعد كانت نظرات العم حمزة تحدق فينا وتتابعنا بشيء من الاستغراب، وحينما دخلنا المقعد هَمَّ العم حمزة واقفا واستقبلنا بترحاب ولد البلد، وأعجبت السيدة بيرتي بزي العم حمزة فجلست إلى جواره.
كلنا كنا منتشين بزيارة الأمريكية لجدة داخل السور، وبعد أن تناولنا الإفطار أخذت السيدة بيرتي في جولة على جدة التاريخية من بيت إلى بيت، ذهبنا إلى بيت خميس، وبيت نصيف، وبيت البسيوني، وبيت النوار، وبيت حبيب، وبيت الجوخدار.
وعند بيت الجوخدار وقفت المرأة وتسمرت أمام المبنى ولم تتحرك، وأمطرتني بمجموعة من الأسئلة: متى تم بناء هذه البيوت؟ وما المواد التي بنيت منها؟ ومن قام بالتخطيط والبناء؟ وكيف تحافظون على هذه الثروة الحضارية الفريدة...؟ وهكذا انتهت الزيارة إلى جدة داخل السور.
وفي اليوم التالي، ذهبت بالسيدة بيرتي إلى الكورنيش، وكنت أظن أن إعجابها بالكورنيش سيكون أكبر، وأطلعتها على جدة خارج السور، ميادين وشوارع فسيحة، وأبراج أسمنتية عالية، وحدائق مكسوة بالزهور والخضرة، تماما مثل أمريكا.
وفي نهاية الزيارة، أطلقت السيدة بيرتي تنهيدة عميقة وقالت: غدا أريد أن أعود إلى الماضي الخالد.. إلى الحضارة العظيمة.. إلى جدة داخل السور لأعاود تلميع ذاكرتي وقراءة كل حجر، وكل زقاق، وكل بيت في جدة التاريخية.
ثم قالت: جدة خارج السور جميلة، ولكن لدينا في أمريكا كثير منها، نحن في أمريكا نبحث عن جدة داخل السور، أما جدة خارج السور فعندنا منها كثير وكثير.
وإذا أخذنا مدينة جدة كتاريخ وماض وحضارة.. نجد أن مدينة جدة مدينة مخضرمة، وتاريخها يمتد إلى ما يقرب من عشرة آلاف سنة. وتقع هذه المدينة الفيضية والفضية في خاصرة البحر الأحمر، وتمثل سُرة هذا البحر العريق، وتحمل في يديها مفتاح أسراره وثرواته وممتلكاته.
وجدة - فوق ذلك - بوابة وثيرة لأطهر بقعة في الأرض وأشرف مكان في الدنيا، حيث مكة المكرمة والمدينة المنورة وكل المشاعر الإسلامية المقدسة.
ومنذ طلعة هذه المدينة عرفت أنها مدينة مغناطيسية جاذبة، تجذب الناس إليها، حتى الحكام كانوا متيمين بحبها، مفتونين بجمالها. ولذلك في العصر المملوكي أعلن السلطان قنصوه الغوري أن جدة مدينة فاضلة وأمر ببناء سورها العظيم، ثم اشترى لها الكنداسة "محطة تحلية للمياه"، وحينما تسلم السلطان سليم مقاليد حكم الإمبراطورية العثمانية أعطى جدة اهتمامه الكبير، ووفر لها المياه العذبة. وحينما تسلمت حكومة الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - مدينة جدة عام 1344هـ انتقلت جدة من مدينة عادية إلى مدينة عالمية، تصطف جنبا إلى جنب مع قائمة من المدن العالمية التي تحتضن التراث العالمي.
إذن جدة بخصائصها الطبيعية نجحت في أن توجد لها مجالا مغناطيسيا يشد إليها كل الناس، حتى أصبحت محبوبة مِن كل مَن يزورها، أو يتعرف عليها، وفوق ذلك تتميز جدة بأنها مدينة الحب والمودة والرقي والأخلاق.
إن المميزات التي توافرت لجدة حديثا جعلتها تنمو- في العهد السعودي الزاهر- في اتجاهين وليس في اتجاه واحد كحال معظم المدن العريقة:
الاتجاه الأول: داخل السور.
والاتجاه الآخر: خارج السور.
ورغم كل ذلك لم تأخذ جدة- مع الأسف- حقها من المؤرخين الذين أعلنوا منذ قرون طويلة تجميد تاريخها وحفظه في علب الإهمال، حتى أصيبت المدينة الوديعة الحالمة بمرض "الكتمة"، وهي تريد الآن أن تبرأ من هذا المرض. تريد من المؤرخين أن ينصفوها، وأن يكتبوا عن صحتها وعافيتها وجمالها وحلاوتها ورشاقتها وطلاوتها. تريد جدة من المؤرخين الذين أعلنوا الإضراب ضدها أن يدلعوها و"يشخلعوها" ويدللوها؛ لأن كل حجر من حجارتها مفعم بعبق الماضي، وكل شبر فوق أديمها يحمل بصمات التاريخ التليد، وكل زقاق يسكن ضلعها يتحدث عن نفسه وعن عطائه وذكرياته، وفي كل عام من شهر رمضان المبارك تشع جدة بتاريخها القديم وحضارتها الحديثة التي ربعتها في قلوب كل السعوديين، حتى أصبحت من أهم المدن التي يقصدها الزوار والسياح من داخل السعودية أو من أشقائنا في دول الخليج العربي.

إنشرها