ثقافة وفنون

فضائل الفشل .. حكمة السقوط أهم من نشوة النجاح

فضائل الفشل .. حكمة السقوط أهم من نشوة النجاح

فضائل الفشل .. حكمة السقوط أهم من نشوة النجاح

قياسا على مقولة الفيلسوف الفرنسي المعاصر جاستون باشلار "الحقيقة العلمية خطأ تم تصحيحه"، يمكن القول إن "النجاح فشل تم استدراكه". فالمتأمل في تاريخ البشرية السحيق منذ بداياته، لا يجد كبير عناء في الاهتداء إلى هذه الحقيقة. لكن نشوة النجاح عادة ما تجب أو تنسي أصحابها ركاما من الأفشال التي تسبق الإنجاز والتتويج.
لا ينكر من عرف حقيقة الفشل، وأخذ نصيبا منه؛ أنه ضروري في طريق النجاح. لا بل إن الكثيرين نجحوا بفضل تبنيهم ثقافة تقبل الفشل. أكثر من ذلك، يذهب سارتر إلى أن عيش الحياة بمعناها الحقيقي "يتطلب اختبار فشل متكرر كي لا نحبس أنفسنا داخل دوامة النجاح عينها".
لم يسترع الفشل انتباه الفلاسفة، خصوصا الغربيين، ولم يتحول بالنسبة لهم إلى موضوع للبحث والاشتغال إطلاقا. صحيح أنه محط تقريض عابر من هذا الفيلسوف أو ذاك بين الفينة والأخرى، لكن لم يكتب فيه أي كتاب أو مؤلف خاص، باستثناء نزر يسير لدى المفكرين الرواقيين؛ منها ما جاء في كتاب التأملات للملك الفيلسوف ماركوس أوريليوس.
وضع الفيلسوف الروائي الفرنسي الشاب شارل بيبان Charles Pépin حدا لهذا الإهمال، قبل نحو سنتين، عقب إصداره كتابا رائعا بعنوان "فضائل الفشل" Les Vertus de l'échec. يدعونا الكاتب طيلة مؤلفه الممتد في 265 صفحة إلى تثمين الفشل، والبحث عما هو متفرد وواعد فيه.
يطرح بيبان منظورا مغايرا للفشل، يقوم على تحدي رؤيتنا له، من خلال الدعوة إلى النظر إلى الفشل من زاوية فلسفية، تؤدي مبدئيا إلى التشكيك في تعريف الفشل نفسه، وتحديد ماهيته، ففي طيات كل فشل غالبا ما نجد نوعا من النجاح.
يقدم الكتاب أطروحة صغيرة من الحكمة التي تضعنا على الطريق إلى النجاح الحقيقي، بأسلوب بسيط ومثير، ومليء بالمعاني والدلالات، والكثير من الحقائق التي من ضمنها ميل الأفراد بشكل مريب إلى شخصنة الفشل، وإضفاء طابع جوهري عليه، لدرجة أن البعض يصبح متماهيا معه، فيقع في خلط ما بين "فشل المشروع" و"الفشل الشخصي".
في المقابل، يقترح صاحب رواية "الفرح" النظر إلى الفشل من زاوية فلسفية، متسائلا عن معنى الحياة المتحققة والمعيشة، ألا تساهم فيها إخفاقاتنا أكثر من نجاحاتنا؟ ألا تجعلنا أعمق وأقدر على مواجهة الصعوبات؟ ألا تجعل ملذات الحياة البسيطة جديرة أكثر بالتقدير؟ وأخيرا، ما الذي يفيدنا ويوجهنا أكثر نحو تفردنا وتميزنا؟ هل هو الفشل الشبيه بنا أم النجاح مثل بقية الناس؟
وكأن بيبان ينتصر هنا لموقف الكيميائي الإنجليزي همفري ديفي؛ مخترع الصوديوم والبوتاسيوم، الذي أعلن ذات يوم بأن "أهم اكتشافاتي كانت من وحي فشلي". وإلى توماس أديسون الذي أنار باختراعه الكوكب، حين سئل عن شعوره حيال فشله المتكرر قبل اختراع المصباح، فأجاب "أنا لم أفشل، بل اكتشفت ألف طريقة لا تؤذي إلى اختراع المصباح".
ينقذ المؤلف بشدة النظم الثقافية والتعليمية السائدة في فرنسا، معتبرا أنها "لا تمتلك ما يكفي من ثقافة الخطأ". ويعمد إلى مقارنتها بما يجري في الولايات المتحدة، ففي نظره "أن تفشل في فرنسا يعني أنك مذنبا، فيما يرادف الجرأة في الولايات المتحدة. فشل الشباب في فرنسا هو فشلهم في السير على السكة الصحيحة، بينما في الولايات المتحدة هو بداية بحث الشباب الطريقة الخاصة بهم".
استثمر الرجل خبرته في المجال التربوي؛ أستاذ مبرز في الفلسفة، في تحليله لمفهوم الفشل القاتل الذي يرسخ مشاعر الذنب لدى الناس. داعيا إلى ضرورة تجاوز ذلك، لأن الفشل بكل بساطة جزء أساسي من تعاليم الأنثروبولوجيا وعلم السلوك، ويشكّل دليلا مهما في نظر أفضل الباحثين في العالم: بفضل إخفاقاتنا، لا نصبح فحسب أكثر تواضعا، وتزيد مكاسبنا على المستوى الإنساني، بل تتحسن مهاراتنا ومواهبنا أيضا. أي أن نجاحاتنا هي وليدة الفشل الذي يحمل معنى فلسفيا عميقا.
يقر بيبان بأن كسب هذا التحدي لن يكون سهلا، بالنسبة لمجتمعات تنظر إلى الفشل بعين الإثم. لذا لم يتردد في تضمين كتابه ما أسماه شروطا ضرورية للحديث عن فضيلة الفشل. على رأسها تفادي الإنكار، إذ لا بد من فشل حتى تكون له فضيلة. ثم عدم التماهي مع الفشل، الشيء الذي لا يتنافى مع تحمل مسؤوليته. إنه فعلا فشلي، لكنه ليس فشل "أناي". إضافة إلى الإنصات العميق لما يجود به الفشل علينا، فإما الاستمرار أو التغيير. وأخيرا، التسامح وقبول الآخر، فالطفل الصغير يخفق بمعدل ألفي مرة، قبل أن ينجح في المشي على قدميه، وهو ينجح لأن نظرة الراشدين لإخفاقاته الأولى هي نظرة متقبلة ومتسامحة.
عزّز هذا الفيلسوف الشاب مؤلفه بالعديد من الأمثلة الواقعة لأسماء عالمية لولا فشلها الذريع في بدايات، لما قررت تغيير مسار حياتها، لتبدأ في مجالات جديدة كانت تنتظرها كي تتألق فيها. من أبرزها الروائي العالمي ميشل تورنييه الذي فشل مرتين في ولوج سلك التبريز في الفلسفة، مانحا لنفسه إمكانية أن يصير ذلك الروائي الشهير الذي لم يكن ليتخيله يوما. يبدو أن بيبان بدأ يحشد الأنصار لأطروحته عن الفشل، حيث افتتح قبل نحو سنة سامويل ويست Samuel West المختص في علم النفس والباحث في مجال الابتكار "متحف الفشل"
Museum of Failure في هلسينجبورج جنوب مملكة السويد. واختار أن يستحضر في هذا المتحف أغلب المشاريع الابتكارية الفاشلة، ويمنحها فرصة حياة أخرى. وذلك من خلال عرضها، وإلقاء الضوء على تلك الإخفاقات متيحا الفرصة للزوار للتعلم من خلال مجموعة تضم أكثر من سبعين منتجا وخدمة من جميع أنحاء العالم كان حليفها الفشل. بذلك تتحول تلك المعروضات؛ بحسب ويست، إلى"شاهد على أن الفشل هو المعلم الأكبر في الحياة، وأنه ليس بالضرورة نهاية المشوار". مجسدا دعوة المسرحي الإيرلندي صامويل بيكيت إلى الفشل بشكل أفضل، حين قال: "حاولت، مسبقا وفشلت؟ لا يهم حاول ثانية، افشل مرة أخرى، افشل بشكل أفضل".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون