Author

أوروبا العجوز .. عاجزة أيضا

|
كاتب اقتصادي [email protected]

"على الرئيس حسن روحاني الاعتذار للشعب الإيراني، بسبب الاتفاق النووي"
مجلس خبراء القيادة في إيران

يبدو أن الكبار الثلاثة في أوروبا "بريطانيا، فرنسا، ألمانيا" يعتقدون بجدوى الدواء للميت! منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران، لم توفر الدول الثلاث على وجه التحديد مناسبة إلا وتحدثت فيها عن أهمية الاتفاق، وإن درجت على إقران الأهمية بتوصيف صار مثل "اللازمة الموسيقية" لديها هو أن الاتفاق ليس مثاليا. الثلاثي تيريزا ماي، وإيمانويل ماكرون، وأنجيلا ميركل، يردد هذه "اللازمة"، أملا في أن تُحدث فارقا ما على صعيد الاتفاق المشوه أصلا. ورغم بعض التصريحات المتواضعة من واشنطن على أن الاتصالات مع الأوروبيين لم تنقطع بهذا الشأن، إلا أن واقع الحال يقول عكس ذلك. الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، يسير بخطوات سريعة وثابتة، نحو مزيد من العقاب للنظام الإرهابي في إيران. وهو إن أراد اتفاقا آخر جديدا، فيجب أن يكون بشروطه، لا بشروط أي جهة، وأول الجهات البلدان "الحليفة" له!
ببساطة، الدول الأوروبية "كبرى وصغرى" لا تستطيع فعل شيء ذي قيمة لإنقاذ الاتفاق النووي، ناهيك عن عجزها في الوقوف في وجه العقوبات الاقتصادية الأمريكية الهائلة التي ستنطلق قريبا على الساحة. وحول هذه النقطة الأخيرة بالذات، كان جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي أكثر من واضح عندما هدد الشركات الأوروبية بعقوبات قاسية، إذا ما استمرت في نشاطاتها في إيران، بعد إلغاء الاتفاق من الجانب الأمريكي. لم يعد مهما حتى محاولات القادة الأوروبيين توفير ما أمكن لهم من حماية لشركاتهم. فهذه الأخيرة تعلم أنها لا يمكن أن تتصادم مع المشرعين الأمريكيين لأن النتيجة معروفة سلفا، بل ومؤلمة جدا بالنسبة لها. وهذا بحد ذاته دليل واضح على أنه لا قيمة لما يقوم به قادة بريطانيا وفرنسا وألمانيا حاليا لإنقاذ الاتفاق المذكور.
القيمة الحقيقية لأي جهد أوروبي بهذا الصد، هو إقناع إيران (التي بات الاتحاد الأوروبي شبه متحدث باسمها) بقبول الشروط الأمريكية كلها، دون مساومة ولا تلكؤ. والشروط تعرفها كل الأطراف ولا تتطلب متخصصا لشرحها. إنهاء برنامج النظام الإيراني للصواريخ الباليستية، ووقف دعم الأنظمة المارقة في المنطقة، إضافة إلى التوقف عن تمويل العصابات الإرهابية هنا وهناك. العالم "ودول الاتحاد الأوروبي منه بالطبع" يعرف مدى انغماس النظام الإيراني في التخريب على صعيد المنطقة كلها، إضافة إلى ذلك تورطه في دعم العصابات الإرهابية التي يمتد نشاطها في كل القارات، وليس في المنطقة فقط. غير أنه لا يبدو أن الأوروبيين يريدون الحديث عن هذا الأمر في هذه المرحلة بالذات، لأسباب تتعلق بالمصالح الاقتصادية فقط لا غير. وكانوا بالفعل واضحين على مستوى القمة بهذا الخصوص.
غير أن الأمور لا تسير هكذا مع الإدارة الأمريكية الحالية، التي اتخذت قرارها بالانسحاب من الاتفاق السيئ، دون أن تغلق الباب على اتفاق آخر. لكنها في الوقت نفسه لم تترك مجالا لأي تأويلات أوروبية بعيدة عن الشروط الأمريكية الواضحة. والحق أن الأسلوب الأوروبي في إدارة الأزمات، لم يعد صالحا لهذا الزمن، والغريب أن الأوروبيين لا يزالون متمسكين به، رغم أنه تحول لأضحوكة حتى في الأوساط الشعبية في القارة الأوروبية نفسها. وليس هناك أي مؤشر على أنهم مستعدون للتغير في هذا المجال، ولذلك كان "الاصطدام" مع الحليف الأمريكي، واجبا إن جاز القول. دون أن ننسى، أن القيمة الحقيقية لأوروبا عند هذه الإدارة، ليست بالشكل التي كانت عليه مع الإدارات السابقة جمهورية أم ديمقراطية.
المسألة ببساطة، تتمحور الآن حول قدرة أوروبا نفسها على تسويق الشروط الأمريكية للنظام الإيراني، كما أن القادة الكبار في الاتحاد الأوروبي يعلمون قبل غيرهم، أنهم لا يستطيعون الوصول إلى أي مستوى من المواجهات السياسية مع الولايات المتحدة. وقد شهدنا هذا حتى في المجال التجاري، عندما أظهر الاتحاد الأوروبي "بطولته" في هذه القضية، غير أنه لم يلبث أن بدأ يتحدث بأعلى معايير الهدوء واللباقة مع الجانب الأمريكي. على الأوروبيين أن ينسوا حاليا كل أحلامهم الاقتصادية في إيران، ويستعيضوا عنها بواقع معاش حقا. وعليهم أيضا أن يقفزوا "ولو مرة" على أساليبهم السياسية التي لم تعد تتوافق مع الحراك السياسي على الساحة الدولية كلها. أوروبا لم تعد عجوزا فقط، بل إنها ببساطة عاجزة أيضا.
حتى الإيرانيون أنفسهم، باتوا ينظرون إلى الأوروبيين كجهة تجيد الكلام الهادئ، لكنها لا تملك ما يمكنها من فعل شيء ما. إنها الحقيقة التي يعرفها الجميع، وأولهم الأوروبيون أنفسهم، الذين خسروا ما تبقى من هيبتهم "هذا إن كانت موجودة"، لأنهم أرادوا أن يدافعوا عن اتفاق مهزوز مشوه، مع نظام لا يعيش إلا بالإرهاب ونشر الخراب في أوسع نطاق ممكن.

إنشرها