Author

دموع فاطمة ...

|

من أصدق الدموع التي قد تسقط من عيني أي إنسان في هذا العالم هي تلك الدموع التي تسقط من عيني والدة مقهورة، لم تكن مجرد دموع تلك التي رأيتها تسقط من عيني فاطمة وهي "تفضفض" لي بوجعها، بل كانت حكاية مريرة حتى الأنذال سيخجلون من تفاصيلها، كنت في إحدى المحاضرات التي تدور عن التخلص من رواسب الماضي والذكريات المريرة، وبعد الانتهاء تقدمت إلي امرأة يفوق عمرها الـ 60 تطلب مني على استحياء أن أمنحها بعض الوقت، كانت يداها ترتعشان بشكل ملحوظ، وعيناها تائهتين كأنما تبحثان عن أمنيات ضائعة في زحام الحياة.
جلست وإياها في ركن هادئ، وبدأت في سرد حكايتها، وعرفت أنها لم تكن تجاوزت الـ 20 من عمرها حين توفي زوجها وتركها أرملة في عز شبابها، ومعها ثلاثة أطفال صغار، توفي أحدهم بين يديها من الحمى؛ لأنها لم تجد ثمن علاجه، لم يكن وضع أهلها المادي بأفضل من وضعها، وقد حاولوا مساعدتها بأقصى طاقتهم، ولكن كان "الحال من بعضه"، اضطرت إلى العمل في الخياطة حتى تتمكن من توفير مصروفات أيتامها، وأصبحت ماهرة جدا في ذلك، وبدأ الجيران والمعارف والأصدقاء في التعامل معها، حين ينام طفلاها ليلا في الغرفة، كانت تضطر إلى حمل ماكينة الخياطة إلى السطح حتى لا تزعجهما بصوتها، وكثيرا ما كان الفجر يؤذن وهي منهمكة في عملها، تقول فاطمة:
كانت غاية أملي ألا أجعل طفليّ يشعران بالحاجة، وأنهما أقل من غيرهما، وكم عاتبتني والدتي على إهدار سنوات شبابي وعدم التفكير في الزواج من جديد، كنت أحني ظهري على ماكينة الخياطة ليلا ونهارا، لم أكن أعير اهتماما ليديَّ حين لاحظت ارتعاشهما ولا لظهري حين بدأت أوجاع "الديسك" تغزوه، كانت فرحة عمري حين تخرج ابناي من كلية الطب، حينها شعرت بأن رحلة كفاحي قد انتهت وآن الأوان لأرتاح.
لم تستطع فاطمة أن تكمل، تحشرجت الكلمات في صدرها، وانهمرت دموعها، ولكني علمت منها بعد أن هدأت أن ابنها الكبير استقر في أمريكا مع أسرته، والآخر يعيش مع أسرته بعيدا عنها ويدعمها ماديا، ولكنه لا يسأل عنها إلا كل ثلاثة أشهر أو أكثر.
دموع فاطمة دفعتني للتساؤل ..
ــــ هل الأمهات يعطين دوما أكثر مما هو مطلوب منهن؟
ــــ هل الأمهات يرفعن سقف توقعاتهن أكبر بكثير مما هو المتوقع من الأبناء؟
ــــ لو عاد الزمن بفاطمة وكل الأمهات اللاتي ذهبت تضحياتهن أدراج الرياح، فهل كن سيتصرفن بشكل مختلف؟
أحرقتني دموعك يا فاطمة!

اخر مقالات الكاتب

إنشرها