FINANCIAL TIMES

ماذا أعددنا لمواجهة الوباء المقبل؟

ماذا أعددنا لمواجهة الوباء المقبل؟

عندما كنت طفلة كانت عائلتي تتنزه مشيا على الأقدام في أنحاء دارتمور، تلك التلال البرية الرائعة جنوب غربي إنجلترا. كانت أوقات التسلية المفضلة لدي في هذه الرحلات هي اكتشاف أنقاض القرى القديمة، المدسوسة تحت نبات الخلنج. قيل لي إن هذه كانت مستوطنات هُجِرت في القرن الرابع عشر عندما اجتاح الموت الأسود "الطاعون" أوروبا، الأمر الذي أدى إلى مقتل ما بين 30 في المائة و60 في المائة من السكان.
كانت ذاكرة مؤرقة. لدرجة أنه عندما أخذت أخيرا واحدة من بناتي إلى التلال نفسها، أشرت إلى الحجارة وشرحت أنها كانت نصباً صغيراً لأهوال الأوبئة.
"هل يمكن أن يحدث ذلك مرة أخرى؟" سألت ابنتي بصورة رصينة، وهي تنظر إلى الأنقاض.
قدمت بعناية الإجابة المطمئنة نفسها التي قدمها لي والداي في الماضي: على عكس القرن الرابع عشر، لدينا الآن أدوية قوية وفهم أكثر تطورا للعدوى وكيفية السيطرة عليها. هذا، من الناحية النظرية، يجب أن يمنع بسهولة أي "موت أسود" آخر. لكن عندما نطقت هذه الكلمات، كان جزء من ذهني يسأل "حقا"؟ فإذا كنت تتحدث إلى المسعفين أو المحسنين المشاركين في الكفاح من أجل الوقاية من الأمراض المعدية، فهناك نغمة تشي بالقلق بشكل واضح ومتصاعد.
خذ بيل جيتس، التكنولوجي صاحب المليارات. في السنوات الأخيرة ناضل هو وزوجته، ميليندا، لتحسين الصحة العامة على مستوى العالم وهما يقولان "إنهما متفائلان للغاية بشأن الإمكانيات المذهلة التي يوفرها علم القرن الحادي والعشرين". لكن هناك مجال واحد يشعران بالتشاؤم حوله: "الأوبئة".
وضعت مؤسسة جيتس أخيرا أنموذجا لما يمكن أن يحدث في حال تفشي في أيامنا هذه وباء إنفلونزا مثل ذلك الذي حدث عام 1918 "الذي قضى على ما بين 50 و100 مليون شخص". ويشير الأنموذج إلى أنه في حال حدوث وباء تنفسي محتمل ينتقل في الجو، سيموت نحو 33 مليون شخص في غضون ستة أشهر. ولفت بيل جيتس الانتباه إلى ذلك في خطاب له في الشهر الماضي قائلا "بالنظر إلى الظهور المستمر لمسببات الأمراض الجديدة، والخطر المتزايد لهجوم إرهابي بيولوجي، ومدى ارتباط عالمنا من خلال السفر الجوي، هناك احتمال كبير لظهور وباء جديد كبير وقاتل في حياتنا".
عالمنا المعولم وحب السفر يجعلان من السهل على مسببات الأمراض الانتشار. لكن هناك مشكلة أخرى مهمة تتمثل في النقص الحاد في العمل المنسق. من الناحية النظرية لدى الولايات المتحدة كثير من المعلومات العلمية المتطورة والمال لمكافحة المرض. ومع ذلك، أظهرت إدارة ترمب اهتماما قليلا بمعالجة هذه القضية. على العكس من ذلك، في الأسبوع الماضي، استقال قائد الأمن الصحي العالمي للبيت الأبيض، الأميرال تيموثي زيمر، بشكل مفاجئ من مجلس الأمن القومي. جون بولتون، رئيس مجلس الأمن القومي، ليس لديه خطط لإحلال بديل، على الرغم من أن زيمر - في مفارقة مروعة - غادر في اليوم نفسه الذي أبلغت فيه الكونغو الديمقراطية عن تفش جديد لداء إيبولا.
ويجادل بعض المسؤولين في إدارة ترمب بأن على القطاع الخاص أخذ زمام المبادرة. لكن شركات الأدوية ليس لديها حافز كبير لتطوير الأدوية التي تعتمد على التكهنات إلا إذا كانت هناك إعانات حكومية. وفي حين سيكون من المنطقي بشكل مثالي للهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة أن تتولى المسؤولية - لأن الأوبئة تنتقل عبر الحدود الوطنية بسرعة خاطفة – إلا أن الأمم المتحدة في معظم الأحيان تكون بطيئة الحركة وبيروقراطية وينقصها التمويل.
هل هناك أي حل آخر؟ من جانبه، يعكف جيتس الآن على تجميع تحالفات خيرية لتطوير لقاح عالمي للإنفلونزا. ويتوسل إلى الحكومة الأمريكية لتخزين "الأدوية المضادة للفيروسات وعلاجات الأجسام المضادة التي يمكن أن تكون (...) صُنعت بسرعة لإيقاف انتشار الأمراض الوبائية أو علاج الأشخاص الذين تعرضوا لها". من ناحية أخرى، في ومضة ترحيبية بالابتكار الاستباقي، تستكشف الأمم المتحدة سبل تحسين مبادراتها عبر الحدود: ففي العام الماضي، مثلا، طرحت خطة لإصدار ما يسمى السندات الوبائية لمنحها مزيدا من التمويل الوقائي لمكافحة خطر الأوبئة.
رواد المشاريع يستجيبون أيضا. ناثان وولف، عالم الوبائيات المعروف قضى معظم حياته المهنية في العمل مع مجموعات القطاع العام لمكافحة الأمراض. اليوم يدير شركة في كاليفورنيا، "ميتابيوتا"، تستفيد من البيانات الضخمة لنمذجة الأمراض، ما يساعد على إيجاد تأمين ضد الأوبئة للشركات والحكومات.
قد يبدو هذا كأنه عرض جانبي، بالنظر إلى أن ما نحتاج إليه فعلاً هو منع تفشي وباء آخر، وليس مجرد الحماية من الضربات المالية. ومع ذلك، وبعد فترة من الإحباط في العمل مع القطاع العام، أخبرني وولف أن أحد أفضل العوامل المحفزة للتغيير الحكومي قد يتمثل في جعل القطاع الخاص يضع أنموذجا لخطر الأوبئة.
دعونا جميعا نأمل ذلك. لكن في المرة التالية التي أسمع فيها عن فيروس إيبولا جديد، أو زيكا، أو إنفلونزا الطيور، أو الإنفلونزا "العادية"، فإن تلك الصور المخيفة لأطلال دارتمور ستظهر في ذهني. نعم، معجزة التكنولوجيا هي ما يفصل بيننا وبين القرن الرابع عشر، كما أخبرت ابنتي بمرح. لكن التكنولوجيا لا تعمل إلا إذا استخدمنا أدمغتنا وروحنا التعاونية. وفي هذا، لا نختلف دائما إلى تلك الدرجة عن أوروبا في القرون الوسطى.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES