Author

التنمية .. وثلاثية المعرفة والاستثمار والخدمات الوسيطة

|

عندما نقول "لعبة" فهذا يعني أننا أمام "حالة" تتسم بالتغير بين حين وآخر، تضم "لاعبين" يقوم كل منهم "باتخاذ قرارات والقيام بنشاطات" يمكن أن تؤثر في جميع اللاعبين وأن تسهم في تغير الحالة. وتأتي قرارات كل لاعب بناء على "أهداف" يرغب في التوصل إليها في إطار "ضوابط" تفرضها اللعبة من جهة، وتبعا لتغير الحالة المطروحة، والناتج عن قرارات مختلف اللاعبين الآخرين ونشاطاتهم من جهة أخرى. ويسعى كل لاعب في اللعبة عادة إلى رفع مكتسباته إلى الحد الأعلى، وتقليص خسائره إلى الحد الأدنى. وللعبة ظروف مختلفة، بعضها "صراع صاخب" يفرز منتصرا يأخذ كل شيء ومهزوما يفقد كل شيء، وبعضها "منافسات هادئة" وغالب ومغلوب في إطار حضاري وموضوعي، ثم بعضها "تعاوني تنسيقي" لكل لاعب فيها نصيب من ثمرة اللعبة. والجميع بذلك رابحون يحصلون ليس بالضرورة على كل ما يطمحون إليه، وإنما على ما يرضيهم في بيئة من التفاهم والوئام.
لعبة كرة القدم لعبة غالب ومغلوب، وأحيانا لا غالب ولا مغلوب، اللاعبون فيها فريقان متنافسان، يسعى لاعبو كل فريق إلى التعاون معا لهزيمة الفريق الآخر عبر أداء منضبط وروح رياضية عالية، خلال زمن محدد، وبإشراف لاعب خارجي هو حكم اللعبة. لعبة التنمية، والمقصود تنمية المجتمع، لعبة أخرى مختلفة في طبيعتها عن كرة القدم. هي لعبة تتطلع إلى تطوير المجتمع نحو الأفضل، ليس اقتصاديا فقط، بل اجتماعيا وإنسانيا وبيئيا أيضا، كما طرحنا في مقال سابق. هي لعبة مهمة الرابح الرئيس فيها هو المجتمع بكل أبنائه، وهو أيضا مستقبل هذا المجتمع الذي تغذيه التنمية بعطاء مستمر تتراكم من خلاله الخبرات والإمكانات، لتقود إلى مزيد من التطور واستنبات الثمرات.
"لعبة التنمية" لعبة على مستويين اثنين: مستوى أول "يقود اللعبة" من خلال لاعبين رئيسين، لكل منهم دور، في إطار دور متكامل يجمعهم، ليقدم معطيات تنموية مفيدة. ثم مستوى آخر يستفيد من هذه المعطيات ليعزز التنمية ويسهم في عطائها، من خلال لاعبين آخرين هم أبناء المجتمع. التنمية الاقتصادية التي يقدمها لاعبو المستوى الأول توظف أبناء المجتمع ليكونوا لاعبي المستوى الثاني ويقوموا بالإسهام في توليد الثروة. وكذلك الأمر في التنمية الاجتماعية والإنسانية والبيئية، حيث هناك رواد للخدمات والعمل التطوعي، ومسؤولون عن التعليم ونشر المعرفة، ومرشدون للمحافظة على البيئة. ومن لاعبي المستوى الأول هؤلاء تنتقل اللعبة إلى المستوى الثاني، حيث يسهم فيها الجميع، بل يستفيدون منها أيضا، وتتحقق تنمية المجتمع نحو الأفضل.
لاعبو التنمية في المستوى الأول هم وحدات استراتيجية لهم أدوارهم وتوجهاتهم لتحقيق أهداف يتطلعون إليها. وتشمل مثل هذه الوحدات أفرادا ومؤسسات، وللمؤسسات بالطبع أفراد يقومون بتوجيهها لتنفيذ أدوارها المنشودة. ولكل من اللاعبين، سواء من الأفراد أو المؤسسات، دور في التنمية يتبع فاعلية اللاعب ودائرة تأثيره، وانحياز هؤلاء لتنمية المجتمع أمر مهم لتفعيل لعبة التنمية وتعزيز معطياتها. وسوف نعرف اللاعبين هنا ضمن مجموعات ثلاث تركز على قضايا "المعرفة والاستثمار والخدمات".
هناك لاعبو "المعرفة"، ولعله يمكن تقسيم دورهم إلى ثلاثة أقسام رئيسة. يختص القسم الأول "بتوعية" أبناء المجتمع بشؤون التنمية ومتطلباتها وضرورة الانحياز لها، وتحفيزهم على الإسهام فيها اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا وبيئيا. ويهتم القسم الثاني "بالتعليم والتدريب" بشتى مراحله وانفتاح استمراريته، ونشر المعرفة اللازمة للتنمية، والمناسبة للمجتمع المستهدف. ويركز القسم الثالث على "البحث العلمي والإبداع والابتكار" في جميع مجالات لعبة التنمية. وتبرز في هذا القسم قضية تسويق المعطيات المعرفية للاستثمار، كما تبرز أيضا مسألة اكتشاف المواهب وتحفيزها على الإبداع والتميز وتمكينها من خدمة التنمية.
هناك أيضا لاعبو "الاستثمار"، وهؤلاء هم القادرون على تمكين الاستفادة من المعرفة ومن أصحابها المؤهلين في تفعيل معطيات التنمية، بما يشمل توليد الثروة وتشغيل اليد العاملة، ناهيك أيضا عن الإسهام في ضبط سلوك العاملين، وتعزيز مجالات التنمية الأخرى. ويشمل لاعبو الاستثمار: المصارف، ورجال الأعمال ورواده، خصوصا أصحاب ما يعرف بـ"رأس المال الجريء". ولا تقتصر أهداف الاستثمار على الناحية الاقتصادية المادية فقط، بل ربما تكون أهدافا اجتماعية أو إنسانية أو بيئية، ولعل تميز الاستثمار الاقتصادي هنا يأتي من خلال قدرته على دعم الاستثمارات الأخرى. فهناك ما يعرف بالمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات التي تتضمن معايير دولية تحدثنا عنها في مقال سابق، ناهيك عن المسؤولية الاجتماعية للأفراد أيضا.
ثم هناك لاعبو "الخدمات"، سواء المهنية أو التطوعية أو الربحية التي تستطيع بناء الجسور بين لاعبي المعرفة من جهة ولاعبي الاستثمار من جهة أخرى. ومن أمثلة هؤلاء اللاعبين، الجمعيات العلمية والمهنية المتخصصة التي تجمع أفرادا من لاعبي المعرفة من جهة، مع أفراد من لاعبي الاستثمار من جهة أخرى في شتى المجالات التخصصية. ويضاف إلى هؤلاء اللاعبين: الغرف التجارية والصناعية التي تجمع المستثمرين وتقدم لهم معلومات استثمارية مفيدة، والمؤسسات الاستشارية التي تقدم المشورة في مشاريع الاستثمار، والجمعيات الاجتماعية التي تهتم بقضايا التنمية المختلفة، وغيرها. والأمل من مثل هؤلاء اللاعبين تسخير إمكاناتهم كوسطاء لتمكين ودعم التعاون بين لاعبي المعرفة ولاعبي الاستثمار من أجل تفعيل التنمية وتعزيز استدامتها.
تحتاج "لعبة التنمية"، كي تحقق الفائدة المرجوة للمجتمع وأبنائه، إلى جهود كل من: لاعبي المعرفة، ولاعبي الاستثمار، إضافة إلى لاعبي الخدمات الوسيطة بينهما. على جميع هؤلاء الانحياز إلى تنمية المجتمع. فعلى لاعبي المعرفة التركيز على المعرفة من أجل التنمية، وعلى لاعبي الاستثمار استغلال مخرجات لاعبي المعرفة من أجل توليد الثروة وتشغيل اليد العاملة وتطوير المجتمع، وعلى لاعبي الخدمات تمكين ذلك، بل مزيد منه، وتفعيله. ثم لا بد أيضا من الاهتمام ببيئة اللعبة وقوانينها، بما يشمل: البنية التحتية وجاهزيتها للتنمية من جهة، والتشريعات والقوانين المنظمة لنشاطات اللاعبين وتحفيزهم على التعاون والشراكة فيما بينهم من جهة أخرى.
والأمل أن يعمل الجميع معا بكفاءة وفاعلية ضمن إطار متكامل من أجل التنمية المنشودة.

إنشرها