Author

أولويات الإنفاق .. والاقتصادات الصاعدة

|
إذا نظرنا إلى الإنفاق، فسنجد أنه يغلب عليه الارتفاع الكبير في المنطقة، وهو ما يصدق على دول مجلس التعاون الخليجي بوجه خاص، حيث يبلغ الإنفاق مستوى أعلى بكثير من المتوسط السائد في الاقتصادات الصاعدة، ويقترب من 55 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في بعض البلدان. ورغم أن حجم الحكومة يعتمد على تفضيلات المجتمع، فإن مستوى الإنفاق المرتفع من السهل أن يتجاوز القدرة على تدبير الإيرادات. وهناك بلدان كثيرة تعمل بالفعل على اتخاذ خطوات لاحتواء الإنفاق، لكنها تعتمد في الغالب على إجراء تخفيضات شاملة أو "استنسابية". والأفضل هو اتباع منهج أكثر استراتيجية يوفر الحماية للفقراء ويحافظ على الطاقة الإنتاجية في الاقتصاد. ولننظر الآن في مكونات الإنفاق: الاستثمارات العامة من أولويات النمو المستدام والاحتوائي بالفعل، لكن هناك مجالات أخرى تشكل أولوية أيضا، كالصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، وهي مجالات غالبا ما يكون الإنفاق عليها منخفضا في البلدان العربية. ومن ناحية أخرى، نلاحظ ارتفاع الإنفاق في مجالات أخرى، كدعم الطاقة وأجور القطاع العام. والواقع أنه لا يوجد ما يبرر الاستمرار في دعم الطاقة. فهو يأتي بتكلفة باهظة، بمتوسط 4.5 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في البلدان المصدرة للنفط و3 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في البلدان المستوردة للنفط، رغم انخفاض أسعار النفط. كذلك يفتقر هذا الدعم إلى الشفافية، إذ يكون ضمنيا في الغالب ولا يتم إدراجه في الموازنة. كما يتسم بدرجة عالية من عدم التكافؤ، حيث يعطي أفضلية للأثرياء الأكثر استهلاكا للطاقة. ولعل الأسوأ من ذلك كله، هو أنه يدعم الإضرار بالبيئة في وقت نحتاج فيه إلى السير في الاتجاه المعاكس، أي أن نحمي الكرة الأرضية وحياة ساكنيها وصحتهم ومستقبل أجيالهم القادمة. ماذا عن فاتورة أجور القطاع العام؟ أتفهم أن الوظائف الحكومية يمكن أن تكون "صمام أمان اجتماعي" كبيرا، لكن حين يكون القطاع العام هو الجهة التي تؤمن وظيفة من كل خمس وظائف، فإنه يتحمل تكاليف هائلة، تؤثر في استدامة المالية العامة، والقدرة على إقامة قطاع خاص ديناميكي، وتحقيق الحوكمة الرشيدة. ولا تقتصر هذه التحديات على الشرق الأوسط، فقد كان إصلاح فاتورة أجور القطاع العام الكبيرة أو المتنامية بسرعة، ضرورة واجهت كثيرا من بلدان العالم. والتصميم الدقيق للإصلاحات، أتاح لبلدان، مثل إيرلندا، تخفيض هذه الفاتورة بنسبة أربع نقاط مئوية من إجمالي الناتج المحلي. ونحن نتطلع إلى حديث روبرت وات، أحد كبار مهندسي الإصلاح في إيرلندا، عن الدروس المستخلصة من تجربتها. وفي نهاية المطاف، تتعذر خدمة الصالح العام من خلال نظام الرعاية الذي يضر بالإنتاجية، وينشر التمييز عن طريق الفساد الذي ينشأ عن تقديم المحسوبية على الجدارة. ويؤدي هذا النظام إلى إهدار المواهب الجيدة، والحد من حوافز الاستثمار في المهارات والمعرفة، وهي القاطرات الدافعة للنمو على المدى الطويل. ويمكن أن يتسبب هذا النظام في تفاقم الشعور بالسخط وعدم الثقة والاستياء، وهو حال يحمل بذور الهزيمة الذاتية في نهاية المطاف. وأخيرا، فإن نمط الإنفاق الحالي لا يزال يفتقر إلى الكفاءة في مختلف القطاعات، بما في ذلك الصحة والتعليم والاستثمار العام. فلم تتمكن تكاليف الأجور المرتفعة من تحسين جودة الخدمات العامة، كما أن مردود الاستثمار العام لا يرقى لمستوى التوقعات مثلما يشير عديد من "تقييمات إدارة الاستثمار العام". كل ذلك يقود إلى نتائج اجتماعية دون المتوسط. فالعمر المتوقع في البلدان العربية أقل بنحو عشر سنوات من المتوسط السائد بين أعضاء "منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي" OECD. ولا يزال الالتحاق بالتعليم دون مستوى التغطية الشاملة، وعدد كبير من الفتيات ما زال يفرض عليهن البقاء في المنزل، كما أن أداء الطلاب في الاختبارات القياسية من بين أدنى مستويات الأداء في العالم. وإضافة إلى ذلك، فإن معدل الفقر مرتفع نسبيا، وعدم المساواة لا يزال مصدرا للقلق.
إنشرها